في مساءٍ ثقافيّ اتسم بالعمق والهدوء الفكري، اختُتمت أنشطة أكاديمية فنسفة الثقافية بلقاء نقدي حمل عنوان «ما بعد الغلاف»، قدّمت خلاله الناقدة الدكتورة دوش الدرسري ورقة لافتة تناولت طوق الحمام من زاوية أنثروبولوجية، متتبّعةً تحوّل مفهوم الحب من مقولة فلسفية أخلاقية في التراث، إلى تجربة سردية إنسانية معاصرة. لم يكن عنوان اللقاء - كما ورد في شريحته الختامية: «أنثروبولوجيا الحب... وتسلّل النص من الفلسفة إلى السرد» - مجرّد تسمية إجرائية، بل شكّل مفتاحًا قرائيًا لمسار الورقة بأكملها، إذ لخص بدقّة الرؤية التي اشتغلت عليها الدكتورة، ووجّه تلقّي النص منذ بدايته. انطلقت الورقة من طوق الحمامة لابن حزم بوصفه نصًا مؤسسًا في فلسفة الحب، لا يكتفي بوصف العاطفة، بل يؤطرها أخلاقيًا وإنسانيًا، ويمنحها بعدًا معرفيًا مرتبطًا بالصفاء والاعتدال والتعفف. ومن هذه الأرضية، انتقلت القراءة إلى طوق الحمام لرجاء عالم، حيث يتغيّر خطاب الحب بتغيّر الزمن، ويغادر المثال ليقيم في اليومي، والمضطرب، والملتبس. وقد أبرزت الورقة كيف لا يحدث هذا الانتقال بوصفه قطيعة مع التراث، بل بوصفه تسلّلًا واعيًا للنص؛ تسلّلٌ تتحوّل فيه الفلسفة إلى حكاية، والمقولة إلى تجربة، والحب إلى ممارسة إنسانية محكومة بقلق العصر، وتشظّي الذات، وتحولات المكان. وتوقفت الدكتورة عند المكان، لا سيما مكة، باعتباره فضاءً سرديًا حيًّا، تتقاطع فيه القداسة بالحب، والذاكرة بالأنوثة، والجماعة بالفرد. فالمكان هنا ليس خلفية للأحداث، بل عنصر فاعل في تشكيل التجربة العاطفية، وفي إعادة صياغة مفهوم الحب خارج مثاليته القديمة. كما كشفت الورقة عن بعدٍ أنثروبولوجيّ دقيق، يتمثّل في قراءة الحب بوصفه ظاهرة اجتماعية وثقافية، تتأثر بالبنية، والسلطة، واللغة، والجسد، لا مجرد إحساس فردي معزول. ومن هنا، بدا طوق الحمام نصًا يعيد مساءلة الحب، لا تمجيده فقط. وفي ختام القراءة، عاد العنوان ليغلق الدائرة دلاليًا، مؤكّدًا أن «تسلّل النص من الفلسفة إلى السرد» هو في جوهره تحوّل في نظرة الإنسان إلى ذاته، وإلى الحب بوصفه تجربة معيشة، لا فكرة مكتملة. بهذا المعنى، شكّل هذا اللقاء ختامًا دالًا لأنشطة الأكاديمية، إذ جمع بين عمق الطرح، وحسن الاختيار، وأناقة المقاربة، مؤكّدًا أن ما بعد الغلاف هو دائمًا المساحة الأرحب للقراءة والفهم. ولا تكتمل صورة هذا اللقاء دون الإشارة إلى المداخلات النوعية التي رافقت الورقة وأسهمت في تعميق أفقها القرائي، حيث شارك في إثراء النقاش كلٌّ من الزميل عبدالله الحسني مدير التحرير، والناقد الفني الأستاذ يحيى مفرح زريقان، والأستاذ عوضة الدوسي، والأستاذ الدكتور أحمد الأسود، والدكتورة هند الثنيان، إلى جانب الإعلامية الأستاذة روضة الجيزاني. وقد عكست هذه المداخلات تنوّع المقاربات وثراء التفاعل، ما بين قراءات نقدية، وأسئلة معرفية، ولمسات إعلامية واعية، أسهمت مجتمعة في تحويل الجلسة من عرضٍ نقدي إلى حوار ثقافي حيّ، أضاء جوانب جديدة من الورقة، وفتح مساحات أرحب للتأويل والنقاش. ويُحسب لأكاديمية صِفّ الثقافية هذا الختام النوعي لنشاطها، بما تقدّمه من برامج معرفية تتجاوز الفعالية العابرة إلى بناء حوار ثقافي حقيقي، يراهن على العمق، ويستثمر في القراءة الواعية، ويمنح النقد مساحته المستحقة. وفي الختام أكد الحضور على أهمية دور وتجربة الأكاديمية، بقيادة التجربة المشرفة عليها د. منى الحمود، التي استطاعت، بحسّها الثقافي وإدارتها الهادئة، أن تصنع مشروعًا معرفيًا متماسكًا، يوازن بين الرصانة الأكاديمية ودفء اللقاء، ويؤكد أن العمل الثقافي حين يُدار بوعي وشغف، يتحوّل إلى أثرٍ مستدام لا حدثٍ مؤقت. فيما لفتوا إلى لقاء «ما بعد الغلاف» لم يكن مجرّد ختام لبرنامج، بل تتويجًا لمسار ثقافي يرسّخ الثقة بأن الأكاديمية تمضي بثبات نحو صناعة مشهد قرائي أكثر نضجًا وعمقًا. روضة الجيزاني د. دوش الدوسري د. أحمد الأسود عبدالله الحسني د. منى الحمود تستعرض مسيرة الأكاديمية وبرامجها