لم يعد الأمن الغذائي موضوعًا تقنيًا محصورًا في التقارير الإحصائية، بل تحوّل إلى أحد أهم مؤشرات القوة الاقتصادية والاستقرار الاستراتيجي للدول. ففي عالم يشهد اضطرابات متلاحقة في سلاسل الإمداد، وارتفاعًا حادًا في أسعار الغذاء، وتغيرات مناخية تؤثر على الإنتاج الزراعي عالميًا، يصبح السؤال الحقيقي ليس فقط: هل الغذاء متوفر اليوم؟ بل: هل يمكن ضمان توفره غدًا وتحت أي ظرف؟ من هذا المنطلق، تكشف إحصاءات الأمن الغذائي في المملكة العربية السعودية لعام 2024 عن قصة اقتصادية أعمق من مجرد أرقام، قصة انتقال مدروس من الاعتماد إلى القدرة، ومن الاستجابة إلى التخطيط. اللافت في بيانات 2024 أن المملكة حققت مستويات مرتفعة من الاكتفاء الذاتي في عدد كبير من المنتجات الغذائية، خاصة في الخضروات والمنتجات الحيوانية. عندما تتجاوز نسب الاكتفاء الذاتي حاجز 100 % في منتجات مثل التمور، الألبان، الروبيان، وبعض الخضروات، فهذا لا يعكس فقط وفرة الإنتاج، بل يشير إلى وجود فائض استراتيجي. اقتصاديًا، الفائض هنا ليس هدفًا استهلاكيًا، بل أداة أمان. فهو يمنح الدولة مرونة أكبر في مواجهة الأزمات، ويحد من تأثير الصدمات الخارجية، كما يفتح المجال أمام التفكير في القيمة المضافة، سواء عبر التصنيع الغذائي أو التصدير مستقبلاً. من وجهة نظري، الأهم من ارتفاع نسب الاكتفاء الذاتي هو الطريقة التي تحققت بها. فالمملكة تعمل ضمن بيئة طبيعية صعبة، تتسم بشح الموارد المائية وارتفاع درجات الحرارة، وهي ظروف تجعل الزراعة التقليدية خيارًا مكلفًا وغير مستدام. ومع ذلك، تشير الأرقام إلى أن التوسع لم يكن عشوائيًا، بل قائمًا على تحسين الإنتاجية، واستخدام التقنيات الحديثة، وتركيز الدعم على منتجات ذات أولوية استراتيجية. هذا التحول في التفكير الاقتصادي هو جوهر الأمن الغذائي الحقيقي، لأن الإنتاج الذي لا يقوم على الكفاءة يصبح عبئًا طويل الأجل بدل أن يكون عنصر قوة. في المقابل، تكشف الإحصاءات أن بعض السلع، خاصة أنواعًا من الفواكه والأسماك، ما زالت تسجل نسب اكتفاء أقل وتعتمد جزئيًا على الاستيراد. ورغم أن هذا قد يُقرأ لدى البعض كفجوة، إلا أنني أراه خيارًا اقتصاديًا عقلانيًا. السعي إلى الاكتفاء الذاتي الكامل في كل سلعة قد يبدو جذابًا سياسيًا، لكنه ليس بالضرورة قرارًا اقتصاديًا رشيدًا. فالأمن الغذائي لا يعني إنتاج كل شيء محليًا، بل يعني القدرة على الحصول عليه في الوقت المناسب وبكلفة مقبولة، حتى في أوقات الأزمات. التنويع الذكي لمصادر الاستيراد، وبناء المخزون الاستراتيجي، لا يقل أهمية عن الإنتاج المحلي نفسه. وتبرز أهمية هذه المقاربة عند النظر إلى نصيب الفرد من الغذاء. فارتفاع استهلاك الأرز، ولحوم الدواجن، والحليب يعكس استقرارًا نسبيًا في مستوى المعيشة وتوفر الغذاء، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات حول الاستدامة الصحية والغذائية. من رأيي، المرحلة المقبلة من سياسات الأمن الغذائي يجب أن تنتقل من التركيز على "كم ننتج" إلى "ماذا ننتج وماذا نستهلك". فالهدر الغذائي، وأنماط الاستهلاك غير المتوازنة، يمكن أن تقوض أي إنجاز إنتاجي إذا لم تُدار بوعي. اقتصاديًا، ما تحققه المملكة في ملف الأمن الغذائي ينعكس مباشرة على استقرارها الكلي. فكل ارتفاع في الاكتفاء الذاتي يخفف من تعرض الاقتصاد لتقلبات الأسعار العالمية، ويحد من استنزاف النقد الأجنبي، ويقلل من المخاطر المرتبطة بالاعتماد على أسواق خارجية غير مستقرة. الأهم من ذلك، أن هذه النتائج تمنح صانع القرار مساحة أوسع للتحرك في أوقات الأزمات، سواء على مستوى السياسات التجارية أو إدارة الطوارئ. برأيي، التحدي الحقيقي في المرحلة القادمة لا يتمثل في رفع نسب الاكتفاء الذاتي بقدر ما يتمثل في الحفاظ عليها وتحسين جودتها الاقتصادية. فالأمن الغذائي المستدام لا يُبنى في المزارع وحدها، بل في سلسلة متكاملة تشمل التصنيع، التخزين، النقل، التمويل، والتقنية. كما أن ربط الزراعة بالصناعة الغذائية يخلق قيمة مضافة وفرص عمل، ويحوّل الغذاء من سلعة استهلاكية إلى قطاع اقتصادي منتج. في المحصلة، تعكس إحصاءات الأمن الغذائي لعام 2024 أن المملكة تسير في اتجاه أكثر نضجًا وواقعية في إدارة هذا الملف الحساس. فهي لا تطارد الاكتفاء الذاتي كشعار، ولا تعتمد على السوق العالمي كملاذ وحيد، بل توازن بين الاثنين بمنطق اقتصادي واضح. وهذا، في تقديري، هو النموذج الأكثر ذكاءً للأمن الغذائي: نموذج يبني القدرة قبل الأرقام، ويضع الاستدامة قبل الاستعراض، ويجعل من الغذاء ركيزة من ركائز القوة الاقتصادية طويلة الأجل..