أتذكرُ عندما نما إلى مسمعي نبأ موت أحد أصدقائي، وكيف أنّ صدمة الذهول سبقت غَصّة الحزن، وكيف أنّه غاب في عنفوان شبابه دون أن يستأذنه القدر.. تساءلتُ حينها: أهكذا انتهى كلّ شيء دون سابق إخطار؟! اللهم لا اعتراض.. ليس أصعبَ على الروح من أن تمتدّ يدُ الغياب لتسحب مقعدًا كان مملوءًا بصوتٍ نعرفه، وضحكةٍ نُميّزها، وملامحَ حفظناها أكثر من حفظنا لوجوهنا. ومع ذلك، لا شيء يُربّي في الإنسان عميق الحكمةَ مثل فقدٍ يسكنه. فالفقد ليس حدثًا عابرًا، بل نقطة انعطاف حاسمة إلى الداخل، ولكأنّ الروح تتلقى درسًا عن مكامن الغفلة، أو لكأنّ العالم يصير فجأةً بلا سقف ليبحث قسرًا عن مسالك التوبة. فثمّة فرقٌ بين من يرحلون بعد أن يمنحونا كلّ ما لديهم، وبين من يرحلون ونحن ما زلنا نمدّ أيدينا نحوهم ظمأى. إذ الفقدان هنا لا يكون لمجرّد شخص، بل لأسئلة لم تُسأل، ولحكايات لم تُحكَ، وللقاءات تأخّر موعدها. وفي هذه المساحة بين الحضور والغياب نصيخ إلى سؤالنا الفلسفي: كيف يتحوّل هذا الفقد الناقص إلى معنى يملأ فراغ الغياب؟ حين نفتقد أحدًا لم نكتف منه في الحياة، فإنّنا نتعرّض لهزّة وجدانيّة، ليس لأنّ الشخص رحل فحسب، بل لأنه أخذ معه جزءًا من ملامحنا. فالناس الذين نُحبّهم لا يعيشون خارجنا، بل يسكنوننا ويوزّعون حضورهم بين خلايانا. وحين يُغيبهم الموت نُدرك فجأة أنّنا كنّا مزيجًا منهم.. كلماتهم ونبرتهم وضحكاتهم، بل حتى طريقة ترتيب أحزاننا تتبدّل. إنّه وببساطة فقدٌ يُشكّل وعينا من جديد. ومن مفارقة الأقدار أنّ أكثر المعاني ثباتًا في حياتنا لا يجيء إلا من أكثر التجارب ألمًا. إنّ الموت في عُمقه لم يكن انقطاعًا، وإنّما علاقةٌ جديدة بلا لقاءٍ مادّي، لذا فنحن نغتني بالراحلين بعد رحيلهم كما لم نغتَنِ بهم في حضورهم. وإنّها لإحدى عجائب التجربة الإنسانية أن يعمل الماضي على إضاءة ما كان مُعتمًا في الحاضر. فكلّ راحل لا يتحوّل إلى ذكرى فحسب، بل يتحوّل إلى معنى وجودي يمدّنا بالحياة. لذا يرى هايدغر أن الموت ليس مجرد نهاية للحياة، بل هو الحدث الذي يمنح الحياة معناها. إذ ما قيمة الحياة لولا الموت؟! وحين يحدث انقطاع للزمن بينك وبين من تحبّ، فإنّ الزمن يبدأ من جديدٍ في داخلك وحدك، فتُصبح اللحظات التي عشتها معه وكأنها تُعاد بنسخة أنقى وقيمة أعلى، فكل كلمة تبدو أكثر وضوحًا، وكل نظرة تكتسب تفسيرًا جديدًا، وكل موقف صغير يستعيد معنى عظيمًا، إذ لم يكن ذلك باديًا من قبل. وكأنّ الموت يكشف الغطاء عن حالة لم نكن لنراها. إنّ الراحل العزيز لا يموت فينا أبدًا. وإنما يُغيّر موقعه منّا. لقد كان يجلس إلى جوارنا فصار يجلس في قلوبنا. وكان يُشاركنا لهونا فصار يربّي فينا رشدنا. فنحن نعرف أنّنا لم نكتف منهم حين نكتشف أنّنا نحملهم معنا. فنجد أنّ أصواتهم تتكلم في قراراتنا، وظلال حكمتهم يظهر في لحظات ارتباكنا، وملامح لطفهم تطفو على وجوهنا حين نهمُّ بأشغالنا. وكأنّ الراحلين يمنحوننا هدية متأخرة ليست إلا نسخةً أفضل منّا. والحقيقة أنّ الفقد ليس أن نخسر أشخاصًا، بل أن نُستدرج إلى منطقةٍ عميقةٍ في أرواحنا لم نكن لنعرفها لولا رحيلهم. إنّه ليس فقدًا بقدر ما هو وجود. يقول باشلار: "الذاكرة هي الوجود نفسه". وأقول: إنّ ذاكرة الذين لم نكتفِ منهم ما هي إلا وجود مضاعف، لأنها لا تحفظ ما كان فحسب، بل تبتكر ما كان يُمكن أن يكون. ولذا فالفقد، حين يكتمل نضجه يصبح قوة ناعمة، فيزرع فينا إحساسًا بضرورة أن نعيش بحب وصفاء، وأن نقول الكلمة قبل أن تُؤجَّل، وأن نمنح قلوبنا لكلّ من يستحقّها قبل أن يسرقنا الموت. فيتحوّل الفقد بذلك من ثُِقَلٍ يشدّنا إلى الأرض إلى معنى يُحرّرنا منها، فنُصغي إلى صمت الراحلين الطويل وكأنّه حكمة تُربّت على أكتافنا بخفّة. وهكذا يتحوّل الفقد إلى معنى، فيصبح درسًا في النضج، ونافذةً على قيمة الإنسان. فالذين غادَرونا لم يأخذوا حضورهم معهم لكنهم تركوه في هيئة أثرٍ سارٍ يُذكّرنا أننا أحببنا يومًا بصدقٍ يكفي لأن يبقى حيًا حتى بعد رحيلهم. عندما ندرك أن الفقد ليس نقصًا نكون قد حوّلناه إلى معنى. فالمعنى ليس شيئاً جاهزًا نعثر عليه، بل هو شيء نصنعه نحن من زخم الفقد نفسه. وهكذا، يُصبح الراحلون الذين لم نكتفِ منهم جزءًا منا بشكل أعمق ممّا لو كانوا باقين معنا، لأنهم يمنحوننا فرصةَ أن نُكمل معهم رحلة حوارٍ لم ينتهِ. وفي هذا الحوار المستمر نكتشف أن الموت لم يسرق منا أحدًا، بل منحنا وجودًا آخر ليظلّ سؤالاً مفتوحاً على الحياة، ودعاءً يتدفق دون انقطاع: رحم الله أحبابنا وجمعنا بهم في مستقر رحمته.