هناك لحظات لا يمكن للمتابع أن يفصل فيها بين مشهد محلي وآخر عالمي، لحظات تتقاطع فيها الإرادة الوطنية مع حاجة العالم، ويولد فيها مسار جديد بلغة وفكر عالمي، ذلك ما تضمنته كلمة معالي المهندس عبدالله العبدالكريم، رئيس الهيئة السعودية للمياه، في افتتاح مؤتمر "الابتكار في استدامة المياه" IDWS 2025 الذي تقام فعالياته حالياً بمدينة جدة؛ كلمة لم تكن توصيفًا لواقع، بل إعادة تعريف لما يعنيه أن ندير المياه في هذا القرن. رئيس الهيئة السعودية للمياه وضع العالم أمام الصورة الحقيقية: مليارا إنسان يفتقرون إلى مياه آمنة، 700 مليون شخص مهددون بالتهجير، 60٪ من اقتصاد العالم يعتمد على الماء، و5٪ فقط من الابتكار العالمي موجّه لقطاع المياه، هذه ليست أرقامًا لتزيين الخطاب، بل خريطة تُظهر فجوة لم تعد محتملة، فالعالم يتقدم في الطاقة والطب والاتصالات، بينما يبقى الابتكار في المياه "الأضعف" رغم أنه الأصل الذي تُبنى عليه الحياة..!! وأنا شخصيا أعرف عن قرب أن هذا الهاجس ليس جديدًا على معالي رئيس الهيئة؛ لاحظته مبكرًا كيف يتعامل مع الابتكار لا كأداة، بل ك ضرورة بقاء، وكيف يصرّ على أن مستقبل قطاع المياه يحتاج إلى أفكار. وهذا الفكر هو الذي ساهم بتقدم السعودية بهذه الصورة في قطاع المياه؟ أجد الإجابة دائمًا في المكان الذي يجب أن تبدأ منه وهي رؤية القيادة، فمنذ إطلاق رؤية 2030 بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لم يعد ملف المياه مجرد جزء من وزارة أو قطاع، بل أصبح أحد أعمدة الأمن الوطني، وهذا ما قاد المملكة إلى تحولات جذرية تكمن في الريادة العالمية في التحلية ذات الكفاءة والطاقة المنخفضة، والتحول الرقمي لشبكات المياه، وكذلك رفع موثوقية الإمداد إلى مستويات غير مسبوقة، والأهم بناء اقتصاد مياه حقيقي، وتأسيس منظمة المياه العالمية كمبادرة سعودية تضع المملكة في قلب صناعة السياسات المائية الدولية. وتأسيس هذه المنظمة تحديدًا لم يكن خطوة دبلوماسية، بل رسالة بأن السعودية لا تلاحق اتجاهات العالم، بل تصنع اتجاهًا جديدًا فيه، كون الابتكار المائي فجوة عالمية، ولكي نفهم عمق ما طرحه معالي رئيس الهيئة السعودية للمياه، يكفي أن نستمع إلى أصوات الخبراء حول العالم وتناولهم المستمر لموضوع الابتكار بالمياه، فالخبير بيتر غليك - أبرز خبراء سياسات المياه عالميًا- يؤكد في مقولة شهيرة له ان: "العالم يعيش أزمة ابتكار أكثر مما يعيش أزمة موارد"، وهو ما يجعل ضعف الابتكار (5٪ فقط) الذي ذكره العبدالكريم بكلمته، مؤشرًا خطيرًا لا يمكن تجاهله، اما الخبير غاري وايت، مؤسس Water.org فيرى من هذا الجانب الخطير عالمياً أن: "الفجوة في الوصول للمياه لن تُسد إلا إذا تضاعف الابتكار خلال العقد القادم"..!! هذه الآراء الهامة بموضوع الابتكار بقطاع المياه تعكس أهمية ما تم طرحه بمؤتمر جدة حالياً، وتشرح لماذا يجب أن تنتقل دول العالم من إدارة المياه، إلى ابتكار المياه، مما يعزز ان IDWS 2025 ليس مجرد مؤتمراً تقليدياً، وانما (منصة دولية لإعادة اختراع المياه) خصوصا مع ندرة المؤتمرات المتخصصة فقط في مجال الابتكار المائي، فتحول مؤتمر جدة والذي يُعقد بنسخته الرابعة الى "أهم منصة عالمية تدفع الابتكار المائي من مرحلة الأفكار إلى مرحلة التطبيق"، من خلال تميزه بعناصر هامة منها: 1) التخصص الكامل في الابتكار (الابتكار المائي)، 2) الجوائز المالية الكبرى (المؤتمر يقدم الجوائز العالمية المالية الكبيرة في قطاع المياه، ليس تكريمًا بل تمويلًا لحلول حقيقية يمكن اختبارها وتوسيعها)، 3) بناء اتجاه عالمي لا يكتفي بالنقاش، بل يدعم الابتكار ليكون عنصرًا قياديًا في قطاع المياه، ويعكس تحول السعودية من مستورد للحلول إلى صانع لها، كما انه يقدّم إطارًا عمليًا لإعادة اختراع هذا القطاع، مما يجعل بلادنا تتبوأ مكانة عالمية في مجال الابتكار المائي. لأن السعودية وحسب ما تضمنته كلمة المهندس عبدالله العبدالكريم الافتتاحية بالمؤتمر، لا تتعامل مع المياه كملف تشغيل، بل كمستقبل دولة، وأن الابتكار ليس خيارًا إضافيًا، بل الطريق الوحيد لمواجهة القرن المقبل، وأن المملكة، بما تملكه من رؤية ومؤسسات وقدرات، ليست جزءًا من النقاش العالمي، بل من صُناع هذا النقاش، وهذا هو المعنى الأعمق الذي حملته الكلمة، مما يجعل مؤتمر IDWS اليوم ليس حدثًا سنويًا، بل علامة فارقة في رحلة دولة قررت أن تقود مستقبل المياه لا أن تتأثر به.