في القرن الماضي، اتبعت التنمية الاقتصادية خطوات واضحة: تعتمد الاقتصادات الناشئة تقنيات الدول المتطورة، وتبني ممكنات الصناعة صاعدة سلم القدرات لتقترب من الدول الرائدة في العالم. هكذا صنعت اليابانوكوريا الجنوبية والصين، حيث سلكت الطريق الممهدة أمامها، لكن لهذا النموذج حدود. فبمجرد ما تكتشف الدول المتقدمة منهجيات جديدة، تتسع الفجوة وتعود الدول لمحاولة اللحاق مرة أخرى. تتبنى الاقتصادات الناشئة منهجا واضحا، فهي تبني الأسس التقنية والتعليمية جيدا وتستورد الأدوات والتقنيات، وتوظف قدراتها في تشغيلها وإعادة إنتاجها. يعزز هذا المنهج الركض على المضمار حيث الحدود واضحة المعالم، وكل ما تحتاجه مضاعفة الجهد، لأن خط النهاية مرسوم بوضوح. على العكس من ذلك، تركز اقتصادات المقدمة طاقتها في بناء مسارات جديدة لم تطرق من قبل. الأسواق في هذه الدول أكثر تنافسية، تعلي من قيمة الموهبة وتستثمر في البحث العلمي والابتكار، مع ثقافة متصالحة مع الفشل. في هذه البيئة، يمر الاقتصاد بدورات من الهدم الخلاق حيث تستبدل التقنيات وأساليب العمل باستمرار، حيث يبحث الجميع عن الموجة القادمة. لا يوجه النمو في سد الفجوات، إنما في القفز على المراحل. التحدي الكبير هو أن سياسات اللحاق تختلف عن سياسات التقدم. فما يصلح للحاق بالركب يختلف كثيرا عن قيادته. سياسات اللحاق بالركب مركزية، تدعم الاستقرار، مع استراتيجيات صناعية ترسم بعناية، تكشف عن الفجوات فتملأها. عندما تنجح هذه السياسة في الاقتراب من حدود التقدم، تفقد هذه السياسات جدواها ويأتي الوقت للتغيير. عندما اقتربت كوريا الجنوبية من الحدود التقنية تبنت سياسات جديدة أكثر اتساعا وضوابط أقل، تحث على المنافسة والاعتماد على البحث والابتكار. لكن هذا التحول الذي نجحت فيه كوريا الجنوبية فشل فيه آخرون. الدول التي تفشل في التحول تقع في فخ اقتصادات الوسط التي تستمر في التقليد وتفشل في الابتكار. تظل هذه الدول في منطقة متأرجحة تتقدم خطوة وتتراجع خطوات، فهي تقترب دائما ولا تصل. ما تعاني منه هذه الدول، هو صعوبة التكيف مع فكرة الهدم الخلاق التي تنبع من داخلها، فقد اعتادت التكيف مع التحول الذي يأتي من الخارج. واقعيا، سنجد في كل اقتصاد جوانب تقليدية وأخرى ابتكارية. ففي المملكة، سنجد أننا نتقدم لدفع الابتكار في مجالات الذكاء الاصطناعي وصناعات البتروكيماويات أكثر من غيرها مثلا. لكن لابد للتحول الهيكلي من إدارة تضمن توازنا بين دعم الدولة وإيجاد أبطال وطنيين دون الوقوع في الاحتكار. بيئة تنمي المنافسة الصحية بممارسة الهدم الخلاق في ظل استثمار جريء في البحث والتطوير المفتوح والمغلق. المستقبل لا ينتمي إلى الاقتصادات التي تسير بسرعة على المسارات القديمة المعبدة، ولكن لأولئك الذين لديهم الجرأة للاختراق في طريق تعج بالمخاطر والعقبات. لم يعد الابتكار الحدودي خيارا، لكنه شرط البقاء في عالم يزيد تسارعه التقني كل يوم.