في رياح التغيير المتسارعة التي تعصف بالعالم، يظهر التراث الثقافي كقاعدة صلبة تبني عليها المجتمعات وجودها وسط تيارات العولمة والانصهار الثقافي، فالتراث ليس مجرد آثار أو مبانٍ قديمة أو روايات، بل هو ذاكرة جمعية مفعمة بقصص الآباء والأجداد وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وفنونهم. بالمختصر هو سجل لحياتهم، والحفاظ على هذا التراث -ماديا كان أو غير مادي- يعني الحفاظ على الهوية الوطنية التي تميزنا عن غيرنا وتجمعنا في الكيان الوطني المشترك. فعندما يرى الإنسان هذا التراث أمامه حاضراً، سواء في صوته أو لهجته أو زيّه أوعاداته وتقاليده أو عمارته القديمة أو آثار وطنه.. إلخ، يتذكر دائماً أنه جزء من منظومة اجتماعية ووطنية أعمق مما يعيشه، هذا الإحساس بالانتماء يوَّلد احترامًا للماضي، واعتزازًا بالهوية، وقدرة على نقل هذا الاعتزاز إلى الأجيال القادمة. كما يعمل التراث كبوتقة انصهار وطنية تجتمع فيها مختلف الأشكال الثقافية لتشكل القالب الوطني الجامع، فقد أثبت الدراسات أن المجتمعات التي تعمل على احترام تراثها والاعتزاز به ونقله لأجيالها القادمة تقل فيها الصراعات الاجتماعية الناتجة من بعض الاختلافات المجتمعية، فتصبح هذه الاختلافات، أو فلنقل التنوعات، حينها نقطة قوة (الثراء في التنوع)، فحين تُعزَّز الثقافة الشعبية مثل الحِرف اليدوية، التقاليد، الفلكلور، المعمار الشعبي فإن الناس يشعرون أنهم ضمن نسيج واحد له جذور واضحة. وهكذا، يصبح التراث عامل تماسك وطني. ولا تقتصر أهمية الحفاظ على التراث على كل هذا؛ بل يمكن أن يتحول التراث الثقافي إلى مورد اقتصادي عبر السياحة الثقافية والصناعات اليدوية والمهرجانات التراثية. وهذا ما نادت به رؤية المملكة 2030 التي جعلت من تراثنا الثقافي الوطني أحد الموارد الاقتصادية وعملت على حفظ هذا التراث بالكثير من الطرق، ومن أهمها؛ توثيقه لدى اليونسكو. وهنا نقطة على درجة كبيرة من الأهمية لا بد من ذكرها في نهاية هذا المقال وهي عدم تكريس جمودية التراث. فالتراث في بعض جوانبه لا بد أن يتكيف مع العصر الذي يحفظ فيه ويتفاعل معه فهو في النهاية "كائن حي" ولا بد من التأكيد على حياته ليستطيع أن يقوم بدوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فتعليم الأجيال قيمة تراثهم وإدماج التراث في حياة الناس اليومية وعدم تركه مجرد معارض أو متاحف أمر مهم. فحين يصبح التراث -إذا جاز لنا التعبير- "نمط حياة" فهنا تبنى الهوية ويصبح الوطن أكثر من مساحة جغرافية، بل روح وقيمة مشتركة. وبالمقابل فإن الاستثمار في التراث يجب أن يتم بأساليب معاصرة عبر التعليم والإعلام والفنون والسياحة بحيث يشعر الجيل الجديد أن التراث ليس عبئًا ماضويًّا، بل أساس حاضر ومستقبل. لا أشك في أن المجتمع الذي يهمل تراثه كأنه يتخلى عن هويته ويسلم مفاتيح نفسه لخطر التهميش أو الذوبان الثقافي، أما المحافظة عليه ليس كممارسة يومية: لغة ولهجات وأزياء وحِرف وقصص وشعر.. إلخ، فإنها تبني مجتمعًا متوازنًا، متواصلًا مع ماضيه، وواثقًا في مستقبله.