مما لا شكّ فيه، أن المجتمع الإنساني يمر بمرحلة تاريخيّة مفصليّة على أكثر من صعيد. ولكن مظاهر القلق ممّا بعد هذه المرحلة تبدو بوضوح أكثر في حوارات ونقاشات مفكرين غربيّين يرون أنّ أُسس المجتمعات الغربيّة تتعرّض للتهديد، وأنّ الإطار الفكري الغربي الذي صمد لقرون بدأ يتصدَّع. ولم يعد النقاش في دوائر الفكر الغربي يتركّز حول تعديل سياسات هنا، أو إصلاحات اقتصاديّة هناك، بل صار نقاشًا حول مدى صمود النموذج الغربي نفسه. وفي الصدارة تحضر أزمة الديمقراطيّة الليبراليّة، حتى أصبحت فكرةُ «نهاية التاريخ» وانتصار النظام الغربي بوصفه الوحيد المرغوب عالميًا التي روّج لها فوكوياما قبل ثلاثة عقود أشبه بحلمٍ يتلاشى كل يوم. ثم تأتي الشعبويّة، فهي لم تعد مجرّد صوت احتجاج في الهامش؛ بل أصبحت قوّةً تهاجم جوهر ثلاثيّة المشروع الليبرالي: سيادة القانون، وحقوق الفرد، والتعدديّة. والأخطر أن الثقة في المؤسّسات التقليديّة (البرلمانات، والأحزاب، والإعلام) تتهاوى بسرعة مخيفة. وتشير استطلاعات رأي إلى أن أقل من 40 % من الشباب في دول غربيّة عديدة يعتقدون أن العيش في ديمقراطيّة هو أمر "ضروري". وفي قلب هذا التحوّل الرقمي، يبرز الذكاء الاصطناعي كأعظم تحدٍ وجودي يواجه المجتمع الإنساني. فبينما يعد بثورة في الإنتاجيّة والطب والعلوم، فإنه يطرح أسئلة فلسفيّة عميقة عن التحيز الخوارزمي والخصوصيّة، بل وعن طبيعة تشكيل الوعي الإنساني نفسه. من جهة أخرى، يأتي مع هذا المارد الرهيب تهديد البطالة وهيكلة سوق العمل، إذ تقدّر بعض الدراسات أنّ ما يصل إلى 30 % من ساعات العمل في الاقتصادات المتقدّمة قد تُصبح مؤتمتة بحلول عام 2030. وتتقاطع هذه التحوّلات التكنولوجيّة مع الأزمة الهيكليّة في بُنية النظام الاقتصادي الغربي. فالنموذج الرأسمالي الليبرالي الجديد، الذي هيمن لعقود، يواجه اليوم "محاكمات" الأجيال الجديدة بوصفه المسؤول عن الزيادة غير المسبوقة في عدم المساواة داخل المجتمعات. وكثيرًا ما تتردّد حُجج مثل: إن أغنى 10 % من الأسر في الولاياتالمتحدة يمتلكون قرابة 70 % من ثروة البلاد. وهذا المحور وغيره، يُغذّي مثيرات "السخط" الاجتماعي ومعها تهتزّ القناعات بفكرة الإيمان بنموذج "الحلم الغربي". وهذا الاستياء يمكن رصد ملامحه في اشتباكات الهُويّة الوطنيّة والصراعات الثقافيّة الدائرة حول العرق والجندر والذاكرة التاريخيّة. ولهذا تحوّلت مصطلحات مثل "ثقافة الاستيقاظ" (Woke Culture) و"خطاب الإلغاء" (Cancel Culture) إلى ساحات خصام تتصادم فيها الرؤى المختلفة (المتضادّة أحيانًا) حول مفاهيم العدالة والحريّة الفرديّة والهُويّة الوطنيّة. ولا يمكن قراءة هذا الانهيار بمعزل عن متغيّرات المشهد الدولي، وصعود الصين، إذ إن نمو الصين لا يُشكّل مجرّد منافسة اقتصاديّة أو تكنولوجيّة فقط، بل يُقدّم النموذج الناجح (في عيون قسم كبير من الأجيال الجديدة) بأنّ من الممكن تحقيق الاستقرار والرفاهيّة دون الالتزام بقيم الديمقراطيّة الليبراليّة. وهذا "النجاح" أظهر رؤيتين متعارضتين تتصارعان بين الأجيال الشابة تحديداً: توجّه كوني (cosmopolitan) يُفضّل الانفتاح والمفاهيم العابرة للحدود، وتوجّه قومي (وطني) يرى أن العودة إلى الهُويّة والوطنيّة هي السبيل الوحيد لاستعادة الثقة والتماسك الاجتماعي. وفي الخلفيّة من كل هذا، يقبع التهديد الوجودي المتمثل في التغيّر المناخي، الذي جسّد بامتياز فشل السياسات والاتفاقيّات العالميّة، ويثير أسئلة (أخلاقيّة) حادّة حول المسؤوليّة والعدالة وحقوق الأجيال القادمة. وعلى المستوى الفردي، تتفشّى في مجتمعات الوفرة آفات الوحدة والقلق والاكتئاب، كشهادات صامتة على أزمة معنى الوجود في عالم فقد الكثير من يقينياته. ويمكن أن نُضيف لها تحديات انخفاض معدلات الخصوبة وقضايا المهاجرين كتهديد وجودي ملحوظ. وكل هذه التساؤلات تقود إلى سؤال مركزي يتردّد صداه في حوارات قسم مهمّ من "النخبة" الغربيّة مفاده: أي مُستقبلٍ نريد بناءه للإنسان في عصرٍ أصبحت فيه الحدود بين الطبيعي والاصطناعي وبين الوطني والعالمي، أكثر ضبابيّة من أي وقت مضى؟ * قال ومضى: لا أعرف الحقيقة؛ ولكني ما زلت أطرق بابها..