هناك اختلاف أساسي بين الفن والإحساس العاطفي، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان.. والفن أيضاً تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط مثير، فالفن هو علم اقتصاد الوجدان؛ إنه الوجدان متخذًا شكلاً جميلاً.. تعرف الفنون تعريفاً أكثر بساطة وأكثر دعابة، بأنها محاولة لخلق اشكال ممتعة ومثل هذه الأشكال تشيع إحساساً من الجمال وإحساسنا بالفن والجمال إنما تشبع حينما نكون قادرين على تذوق الوحدة والتناغم بين مجموعة من العلاقات الشكلية من بين الأشياء التي تدركها حواسنا. وذلك فإن الحكايات والأساطير البديعة ستبقى آثاراً خالدة وفريدة، وتشهد على ذاك العصر، يوم كان الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفي وحدة بهيجة مع الطبيعة، فوقتذاك، ببساطة ودون عناء أو عذاب كان الوعي يخضع العالم لروحيته المستفيضة التي لم تستطع في البدايات أن تكون محددة ومحدودة، بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدي التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثاً غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة مما يحدث المتعة. يقول غيورغي غاتشف في كتابه الوعي والفن: "إن رقصة الصيد هي في مكان يتوسط المعرفة والنشاط المادي العلمي، فهو يتعزز بينهما، إنه رمز وتجسيد لوحدتها، ويختلف عن الحدث الواقعي في غياب المادة الحقيقة أي غياب المضمون، بل غياب النتيجة الفعلية". فالعمل أو النشاط في الفعل التركيبي يغدو متعة، ومصدر هذه المتعة يكمن فى حرية التحكم في مادة العمل وفي ظروفه. وفي مادة العمل وتظهر المعرفة، التي هي كل ما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات، وقد تكون ليست غاية وإنما هي وسيلة، مادة يتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة. بالتالي فالإنسان هنا يتلقى المتعة في النشاط الفني، هذا النشاط الذي يكمن مضمونه فى ذاته. وقد مارس الإنسان القديم طقوسه وفنونه وأعماله بمتعة فائقة رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم وارساء جسر المعرفة، ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية. التي صنفها أدموند هولمز بغرائز ست قابلة للتعلم. ذلك لأن الفنان يضع نفسه داخل العمل الفني وتسمى (الاحلالية) ومن هذه الاحلالية والاندماج الذي يسلكه -حين يبدع- ما هي إلا ذوبان في ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة، التي قد تحدث صدى -أي عدوى- في نفس هذا الإنسان المتلقي للتجسيد والوصول إلى محسوسات بدلاً من الملموسات. يقول هربر تريد في كتابه معنى الفن : "العمل الفني هو بمعني تحرير الشخصية إذ تكون مشاعرنا بصورة طبيعية مكبوتة مضغوطة. إننا نتأمل عملاً فنياً فنشعر بشيء من التنفيس عن المشاعر ولكننا نشعر أيضاً بنوع من الإعلاء والعظمة والتسامي". وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الفن والإحساس العاطفي، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان. والفن أيضاً تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط مثير، فالفن هو علم اقتصاد الوجدان إنه الوجدان متخذا شكلاً جميلاً. إن حقباً تاريخية بأكملها كعصر النهضة مثلاً ربما ظهرت تفضيلاً لطراز معين من الفن ولكن لو أننا وضعنا مجموع تاريخ الفن بأكمله موضع التأمل منذ فن ما قبل التاريخ والفن البدائي حتى الزمن الحاضر لا يمكن تفسير كل ما فيه من تنوع، بل لا يمكن تنظيمه إلى درجة كبيرة دون الرجوع إلى الطرز السيكولوجية والبحث عن الإحساس بما يمكن أن نسميه بالبحث فى الوجدانيات. فقد تفرع عن الطراز الوجداني المنطوي أحد أعاظم الفنون المعروفة لعالمنا، وذلك لأن هذا هو الطراز الذي يضفي القيم الوجدانية على المثل العليا المتنامية مثل العقيدة والحرية والخلود، ويصبح قادراً على التعبير عن تلك المثل العليا، وفي صورة المفاهيم المنطقية بل في أشكال صور فنية، ومن هذا الطراز أو ذاك لا ينحصر فقط في عظماء الفن العالمي وما رأيناه في الفنون القوطية والإسلامية الرائعة التي لها ذات الصلة بالعقيدة وبالوجدان فتتسرب إلى دواخل النفس بشكل سحري لا ندرك كنهه، حتى تلك النقوش على الكهوف والتي ابتكرها الإنسان البدائي للتخلص من الهلع من المحسوس والهروب للملموس في شكل فني هي أيضا ذات عقيدة. ولذلك ارتبط الفن بالعقيدة منذ نشأته الأولى. فمنذ أن وعى الإنسان بما حوله وبدأت أنامله تداعب الحجر لتشكل منه أدوات بدائية أو قطعا فنية، ومنذ أن وقف في الماء ولامس أحياءه تسبح بين قدميه ودخل الكهوف واتخذها مساكن كان هناك شيء خفي يشعر به بداخله ويعطيه القوة في مواجهة العالم المليء بالوحوش، فأوجد الفكر الإنساني شكلاً راقياً من اشكال الفكر، حتى ما قبل التاريخ، بأن هناك قوى خفية تسيطر على هذا العالم تعمل دوماً على تحقيق التوازن، هذه القوة وإن كانت غير ظاهرة إلا أن أفعالها تدل عليها؛ فحاول دوماً التودد إليها خوفاً من بطشها فحاكاها في أفعالهاً إذ إن تكوينات الصخور وهطول الأمطار عليها، تشكل قطعاً فنية منحوتة إذ تترك أشكالاً تبث الرهبة داخل نفس هذا الإنسان. فرأى الإنسان تماثيل نحتتها الطبيعة، ولأن الإنسان بطبيعته يحاكي ما يراه فصنع لآلهته أو لهذه القوى الخفية أشكالاً ليتقرب إليها ويعبدها ويأنس بها في هذا العالم الموحش، فالإنسان الذي عاش في ظروف المجتمع البدائي لم يكن يفهم إلا الصلات القريبة منه كعلاقات القربى. كان التفسير بواسطة علاقات القربى أكثر تفسيرات الطبيعة إقناعاً له، فالسماء والهواء والأرض والبحر والعالم السفلي، أي الطبيعة برمتها كل ذلك لم يكن يبدو له أكثر من مشاعة قبلية ضخمة واحدة. وهذه الطبيعة من حوله هي ما حرك الإنسان لمحاولة سائر الأوضاع من حوله فنشأ داخله اعتقاد سحري بقدرته على التغلب والانتصار وما نراه من صور الحيوان في العصر الجليدي على الجدران وعلى أسقف الكهوف من صور للوعل والجاموس البري والخيول وأغلب الظن أنهم لم يفعلوا ذلك للمتعة والجمال؛ فلقد كانت الكهوف من الظلمة بحيث لا تتيح الرؤيا وبالتالي لا تصلح أن تتخذ سكناً ولكن أغلب الظن أنهم رسموا هذه الصور اعتقاداً منهم بأنها ستقع بين أيديهم إذا رسموها، وهذا هو البعد السحري للفن.