يُعدّ الأمن المائي عنصراً بالغ الأهمية في خطط النمو المستقبلية لكل دولة، حيث أولت المملكة العربية السعودية عبر رؤية 2030 اهتماماً محورياً بالأمن المائي كونه ركيزة أساسية للنمو المستدام، وضخت استثمارات بمليارات الريالات في برامج التحلية وإعادة استخدام المياه، وتصريف مياه الأمطار، و نجحت في بناء أحد أكثر قطاعات المياه تطوراً في العالم، إذ أصبحت تنتج أكثر من 11 مليون متر مكعب من المياه المُحلّاة يومياً وفقاً لتقارير المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة (SWCC)، مما يجعلها أكبر سوق لتحلية المياه عالمياً. ومع ذلك غالباً ما نغفل عن ذكر الأيادي الخفية المسؤولة عن البُنى التحتية لهذا القطاع الحيوي، حيث أن البنية التحتية وحدها لا تكفي لضمان مستقبل المياه في المملكة، إذ يمكن استيراد التقنيات، وبناء المصانع، ومدّ خطوط الأنابيب، لكن العنصر الحاسم في تحقيق المرونة على المدى الطويل لا يكمن في الأنظمة فحسب، بل في الكفاءات التي تُديرها وتحافظ عليها؛ وهنا تبرز واحدة من أكثر التحديات إلحاحاً أمام رؤية 2030: فجوة الكفاءات. فجوة الكفاءات: فرصة للتغيير بينما تمضي المملكة بخطى واثقة نحو تحقيق رؤيتها الطموحة، تبرز الأهمية القصوى للعنصر البشري، فنجاح أي بنية تحتية لا يعتمد فقط على ما يُشيّد من مصانع ومحطات، بل على من يُديرها ويطورها ويحافظ على استدامتها، ووجب استغلال هذه الفجوة وجعلها فرصة للتحوّل الحقيقي الذي ينبغي الوصول إليه للتمكن من تحقيق تطلعات رؤية السعودية 2030. إذ يتخرج عشرات الآلاف من المهندسين من الجامعات السعودية، ولكن نسبة قليلة منهم تحظى بتدريب عملي فعلي في مجالات التحلية أو معالجة مياه الصرف أو شبكات التوزيع قبل دخولهم سوق العمل، وهذا ما تؤكده الدراسات التي أشارت إلى وجود فجوة متنامية بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، حيث أظهرت دراسة أُجريت عام 2024 حول "قابلية توظيف الخريجين في مختلف القطاعات السعودية" أن أرباب العمل يجدون نقصاً ملحوظاً في المهارات العملية، والمهارات الشخصية ذات الصلة بالوظائف، الأمر الذي يتطلب منا إنشاء برامج تطوير ممنهجة لإغلاق الفجوة بين التعليم والتوظيف. وهنا يأتي دور التعاون بين القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية لسدّ هذه الفجوات المعرفية، وبالفعل أنشأت المملكة مؤسسات رائدة مثل: الأكاديمية السعودية للمياه التابعة للمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة (SWCC)، التي تقدم برامج مؤهلة ومعتمدة للخريجين الجدد في مجالات تقنيات التحلية وتشغيل المحطات وجودة المياه، بهدف جسر الهوة بين التعليم الأكاديمي والمتطلبات التقنية للقطاع. وبالمثل، فإننا في إيه في كيه السعودية لصناعة الصمّامات، نقوم منذ أكثر من 40 عاماً بتقديم برامج تدريبية متخصصة في الصمامات، تمنح الخريجين خبرة تطبيقية حقيقية وتُعدّهم لمسارات مهنية واعدة في قطاع المياه. من التوطين إلى التمكين ولمواجهة التحديات المتزايدة في توفير مياه نظيفة وعذبة للمدن المتنامية في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، يجب أن يتحوّل التركيز من مفهوم التوطين كالتزام تنظيمي إلى التوطين كقدرة وكفاءة. فالشركات التي تسهم بمنتجاتها في مشروعات البنية التحتية بحاجة إلى إدراك أن تحقيق نسب التوظيف المستهدفة قد يلبّي الأهداف قصيرة المدى، لكنه لا يُنتج بالضرورة عمقاً تقنياً أو ثقة قيادية قادرة على إدارة الأنظمة المعقّدة واستدامتها، حيث أن المرونة الحقيقية تتحقق عندما يكون المهندسون السعوديون مجهّزين ومُمكّنين بالكامل لقيادة وصنع مستقبل سوق العمل وليس فقط للمشاركة فيه. وهذا هو المبدأ الذي تدعمه إيه في كيه السعودية لصناعة الصمّامات للوصول لتحقيق طموحات رؤية السعودية 2030، حيث أنها تحرص على دمج التدريب العملي في جميع مراحل تطوير الكفاءات، وتدعو الشركات الأخرى إلى تبنّي هذا النهج الاستثماري طويل المدى الذي يركّز على بناء قدرات وطنية مستعدة وجاهزة. بناء الكفاءات تأمينٌ للمستقبل تدخل المملكة عقداً محورياً في قطاع المياه، إذ يُتوقّع أن ترتفع معدلات الطلب بأكثر من 30٪ بحلول عام 2030، في ظل تفاقم الضغوط المناخية وتزايد شُح الموارد؛ ورغم أن البنية التحتية الجاري إنشاؤها اليوم تُعدّ من بين الأفضل عالمياً، إلا أن غياب الكوادر القادرة على تشغيلها وصيانتها قد يُعرّض هذه الجهود للخطر. لذا فإن الخطوة التالية تتمثل في الاستثمار بقدر الطموح ذاته في الكفاءات البشرية، عبر تمكين المهندسين السعوديين ليكونوا الحُماة الحقيقيين لأهم موارد الوطن ألا وهو "الماء". وأهم ما تحتاجه المرحلة الحالية هو إطار وطني يرسّخ التعاون بين الجامعات والقطاع الصناعي والجهات التنظيمية، من خلال خطوات عملية تقتضي التالي: دمج التدريب التطبيقي في المناهج الهندسية الدراسية، وتوسيع نطاق الأكاديميات التدريبية المتخصصة، جعل كافة مشاريع المياه الكبرى منصّات لنقل المعرفة إلى الكفاءات السعودية. فمن خلال مسيرتنا الممتدة على أربع عقود في المملكة شهدنا عن قرب كفاءة وطموح المهندسين السعوديين حين تتاح لهم الفرص، فالكثير ممن التحقوا بالقطاع كمتدربين أصبحوا اليوم قادة يسهمون في رسم مستقبله، وهنا يكمن المعيار الحقيقي للتقدّم ليس في خطوط الأنابيب ومحطات المعالجة فحسب، بل في الكوادر الوطنية المؤهلة للحفاظ عليها وتطويرها. فمهندسو اليوم هم قادة الغد الذين سيحمون أمن المياه في المملكة، وبذلك لن يساهموا في تحقيق رؤية 2030 فحسب، بل في ضمان أمن وازدهار الأجيال القادمة. فيصل الحربي - مدير الموارد البشرية والشوؤن الإدارية - إيه في كيه السعودية لصناعة الصمّامات