من منظور بنائي، لا تُفسَّر العلاقات الدولية بمجرد تغيّر المصالح المادية، بل تتشكل أساساً عبر الخطاب والهويات والتصورات المتبادلة. ويبرز هذا التحول بوضوح عند مقارنة خطابين للرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال أقل من عقد واحد؛ ففي زيارته الأولى إلى الرياض عام 2017، وجّه رسائل مباشرة، في إطار علاقة تُعرِّف فيها الولاياتالمتحدة نفسها طرفاً مانحاً للأمن، فيما تُصوّر السعودية طرفاً متلقياً له. أما في لقائه الأخير مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فقد اتخذ الخطاب منحى مغايراً تماماً، إذ أظهر تقديراً غير مسبوق للدور السعودي، واعتبر المملكة حليفاً استراتيجياً تحتاجه واشنطن، لا مجرد دولة تنتظر حمايتها. ولا يقتصر هذا التحول على الخطاب الأميركي فحسب، بل يتجلى أيضاً في الخطاب السعودي الجديد الذي أعاد صياغة دور المملكة وهويتها الدولية. فقد أكد ولي العهد، في معرض رده على أحد الأسئلة خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، قائلاً: "نحن لا نخلق فرصاً وهمية لإرضاء الولاياتالمتحدة أو الرئيس ترمب، إنها فرص حقيقية، فمثلاً عندما تسأل عن الذكاء الاصطناعي والرقائق، فالسعودية لديها طلب كبير وحاجة كبيرة إلى قوة الحوسبة..". إن هذا التباين لا يُعد مجرد اختلاف في لغة المجاملة الدبلوماسية، بل يمثل تحولاً بنائياً في تعريف كل طرف للآخر. فالخطاب الأميركي انتقل من تصور السعودية كحليف تابع في معادلة "النفط مقابل الأمن"، إلى تصور جديد يرى فيها قوة مستقلة، وركيزة للاستقرار الإقليمي، وشريكاً اقتصادياً وتكنولوجياً لا يمكن تجاوزه. وفي الوقت ذاته، أعادت السعودية إنتاج هويتها الدولية ودورها الإقليمي بما يجعل العلاقة مع واشنطن علاقة ندّية مرنة قائمة على المصالح المشتركة وخلق الفرص، لا علاقة تبعية تقليدية. وبهذا المعنى، يصبح التحول في طبيعة العلاقة نتاجاً مباشراً لتغير الهويات والأدوار والتصورات المتبادلة، وليس مجرد انعكاس لتغير المصالح المادية. ومن هنا، تبرز المقاربة البنائية باعتبارها الإطار الأكثر قدرة على تفسير هذا التحول العميق في بنية العلاقات السعودية-الأميركية. يُنظر في العادة إلى العلاقات الدولية من خلال مقاربتين ماديّتين أساسيتين: الواقعية التي تركّز على الأمن والتهديدات، والليبرالية التي تُعنى بالتجارة والمؤسسات. وعلى الرغم من الأهمية التي اكتسبتها هاتان المقاربتان خلال فترة الحرب الباردة وما قبلها، فإنهما تبدوان أقل قدرة على تفسير التحولات الراهنة، إذ تمر العلاقات الدولية اليوم بمرحلة إعادة تشكيل معرفي وهوياتي عميقة. وهنا تبرز المقاربة البنائية بوصفها إطاراً أكثر ملاءمة، فهي تفترض أن العلاقات بين الدول تُبنى عبر الهويات والتصورات والخطابات والمعايير والتفاعل المتبادل. وبالنظر إلى التحولات التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير، فإن البنائية توفر منظوراً يفسر كيف تغيّرت هوية السعودية في النظام الدولي، وكيف أعادت الولاياتالمتحدة صياغة تصورها عنها، وكيف أعاد الطرفان معاً بناء مصالحهما المشتركة، بما أفضى إلى إنتاج نمط جديد من العلاقة يتجاوز المعادلة التقليدية "النفط مقابل الأمن". بدأت الهوية السعودية الدولية الجديدة تتبلور منذ عام 2016، وأعني طبيعتها ودورها القيادي الدولي. تفترض البنائية أن هوية الدولة (طبيعتها) ليست ثابتة، بل تتطور عبر الخطاب والسياسة والتجربة. ومن هذا المنظور، شهدت السعودية منذ ذلك الحين إعادة صياغة جوهرية لهويتها الدولية وطبيعتها، يمكن تلخيصها في ثلاثة مسارات: من دولة تقليدية محافظة إلى دولة رؤية وتنمية وتحول اقتصادي؛ من دولة إقليمية محدودة التأثير إلى دولة قيادية إقليمية ومؤثر عالمياً؛ ومن طبيعة اقتصاد أحادي يعتمد على النفط إلى طبيعة اقتصاد متنوع يستند إلى التكنولوجيا والاستثمار العالمي. هذه الهوية الجديدة أعادت تشكيل طريقة إدراك السعودية لمصالحها، وبالتالي أعادت تشكيل طبيعة العلاقة مع الولاياتالمتحدة. في الهوية القيادية، تفترض البنائية أن الدول تتصرف وفق "دور" (Role) تحدده لنفسها. السعودية اليوم، كما هو واضح، تتبنى دوراً جديداً-مرتبط بطبيعتها الجديدة-يمكن تلخيصه ب: دولة مركزية في الشرق الأوسط، قوة مستقلة ذات قرار سيادي، فاعل اقتصادي عالمي، وقائد لمشاريع التنمية في المنطقة. اتضح ذلك في زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة الأميركية، التي أظهرت حجم المبالغ التي سيتم استثمارها، وتصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب عندما قال، في سياق حديثه عن صفقة الأسلحة "وهذا من شأنه ان يجعل بلدينا أكثر أمناً ويعزز دور المملكة كقوة رئيسية للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط". هذا الدور الجديد يفرض علاقة ليست قائمة معادلة "النفط مقابل الأمن"، بل علاقة ندّية مرنة. وفي الجانب الآخر، تأتي الهوية الأميركية الدولية المتغيرة تجاه السعودية، وأعني هنا إعادة تعريف السعودية في العقل الاستراتيجي الأميركي. من منظور بنائي، الولاياتالمتحدة لم تعد تنظر إلى السعودية بالطريقة القديمة: ليس مجرد حليف نفطي، وليس لاعباً إقليمياً ثانوياً، وليس تابعاً ضمن محور "الأمن الأميركي". بل بدأت تُعرّف السعودية اليوم ك: قوة صاعدة لها استقلالية عالية، ومركز استقرار إقليمي، وقوة استثمارية وتكنولوجية قادرة على منافسة الصين، وفاعل سياسي لا يمكن تجاوزه في ملفات غزةوالبحر الأحمر واليمن. كذلك يأتي تحول الخطاب السياسي الأميركي شارحاً لإعادة تعريف السعودية. من الملاحظ أن البناء السياسي للتصورات الأميركية تجاه السعودية يتجلى في عودة الخطاب السياسي الأميركي للاعتراف بالدور السعودي، وفي تغير نظرة المؤسسات العسكرية والاستخبارية للدور السعودي في التوازن الإقليمي، وفي تعامل إدارة البيت الأبيض مع الرياض بوصفها "لاعباً حاسماً" وليس مجرد "مستفيد من الأمن الأميركي". هذه التغيرات في الخطاب ليست شكلية؛ ففي البنائية، الخطاب ينتج الواقع السياسي. تعكس هذه التحولات الجديدة في العلاقة السعودية-الأميركية، في ضوء المقاربة البنائية، إعادة بناء المصالح المشتركة. البنائية تقول المصالح ليست سابقة على الهوية الدولية، بل تتشكل من خلالها. وهذا ما تشير اليه المصالح السعودية الجديدة. بناءً على الهوية السعودية الدولية الجديدة، تغيّرت المصالح السعودية من أمن يعتمد على الولاياتالمتحدة إلى أمن متعدد الشراكات (أميركا، الصين، أوروبا)؛ ومن اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يهدف لتصدير التكنولوجيا، السياحة، والطاقة النظيفة؛ من دور إقليمي يعتمد على التوازنات الخليجية إلى دور قيادي يتواصل مع آسيا وأفريقيا وأوروبا. هذه المصالح الجديدة أعادت تشكيل طبيعة الشراكة مع واشنطن تماماً. في المقابل نلاحظ المصالح الأميركية الجديدة. فالولاياتالمتحدة تعيد تعريف مصالحها في المنطقة: فهي تحتاج إلى السعودية لضبط أسعار النفط رغم الاستقلال الطاقي، وتحتاجها لاحتواء النفوذ الصيني، وتحتاجها لأمن البحر الأحمر والخليج، وتحتاجها للتوازن مع إيران، وتحتاجها لدعم الاستقرار في المنطقة. وبذلك، لم يعد النفط هو جوهر العلاقة، بل الموقع الجيوسياسي والدور القيادي للسعودية. يقودنا ذلك إلى إبراز المعايير الجديدة التي باتت تحكم طبيعة العلاقة الدولية. فالمقاربة البنائية تولي اهتماماً خاصاً بالمعايير (Norms)، أي تلك القواعد الاجتماعية التي توجه سلوك الدول وتحدد أنماط تفاعلها. ويتجلى هذا بوضوح في المعايير المستحدثة التي تشكل إطار العلاقة السعودية–الأميركية؛ إذ أصبح الاحترام المتبادل بديلاً عن علاقة "الحماية والمستفيد"، وحلت الندية محل الصيغة غير المتكافئة السابقة، فيما برزت الاستقلالية الاستراتيجية كمعيار سعودي جديد، إلى جانب تغليب الواقعية السياسية على الخطاب الأيديولوجي الأميركي التقليدي، فضلاً عن اعتبار الشراكة التقنية ركناً أساسياً في هذه العلاقة. هذه المعايير لم تكن حاضرة بهذا الشكل تماماً قبل خمسة عشر عاماً، لكنها اليوم تؤسس لمرحلة جديدة أكثر توازناً ومرونة في مسار العلاقات الثنائية. ومن المهم، بعد كل ما سبق، التوقف عند التفاعل بوصفه عملية بنائية أساسية في صياغة العلاقة السعودية–الأميركية الجديدة. فالمقاربة البنائية تفترض أن الدول لا تبني علاقاتها على أساس المصالح الجامدة فحسب، بل من خلال التفاعل المستمر الذي يعيد تشكيل الأدوار والهويات. وقد شهدت السنوات الأخيرة سلسلة من التفاعلات التي أعادت صياغة "قواعد اللعبة" بين الرياضوواشنطن؛ إذ إن التقارب السعودي–الصيني دفع الولاياتالمتحدة إلى إعادة تقييم موقع المملكة ودورها، كما أن المبادرات السعودية في البحر الأحمر وشرق أفريقيا، مثل تأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر والاستثمارات المتنامية في القرن الأفريقي، فرضت على واشنطن إعادة ضبط مقاربتها تجاه المنطقة. وإلى جانب ذلك، أسهم الدور السعودي في التخفيف من تداعيات الحرب في أوكرانيا في تعزيز مكانتها الدولية، فيما أوجدت قوة صندوق الاستثمارات العامة واقعاً اقتصادياً جديداً فرض نفسه على الشركات الأميركية. إن هذه التفاعلات مجتمعة لم تُعد تشكيل مضمون العلاقة فحسب، بل أعادت بناء هيكلها وأطرها بما يعكس طبيعة التحول البنائي الجاري. وهنا يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للمقاربة البنائية أن تفسّر دلالات الزيارة الأخيرة؟ من منظور بنائي، لا تُعد الزيارة مجرد "حدث سياسي" عابر، بل تمثل إعلاناً عن هوية سعودية دولية جديدة تسعى إلى الاعتراف بها على المستوى العالمي، كما تُجسّد في الوقت ذاته محاولة أميركية لإعادة صياغة تصورها عن المملكة. إنها عملية إعادة بناء لمعنى الشراكة الاستراتيجية، ولحظة تتقاطع فيها الهويات والمصالح والمعايير لتنتج شكلاً جديداً من العلاقة الثنائية أكثر عمقاً ودلالة. من منظور بنائي، يُنتظر أن تفضي هذه الزيارة إلى مجموعة من النتائج البارزة. أولاً، إعادة تعريف مفهوم الشراكة الدفاعية بحيث لا يقتصر على شراء الأسلحة، بل يمتد ليشمل نقل التكنولوجيا، وتوطين الصناعات العسكرية، وتعزيز القدرات في مجالات الأمن السيبراني والفضائي، وإرساء علاقة مؤسسية طويلة الأمد. ثانياً، ارتقاء العلاقة إلى مستوى جديد من الشراكة التكنولوجية، حيث تُعد التكنولوجيا هنا أكثر من مجرد مصلحة مادية، بل جزءاً جوهرياً من الهوية الدولية الجديدة للمملكة بوصفها دولة المستقبل. ثالثاً، إعادة صياغة الدور السعودي في النظام الإقليمي، إذ تنتج مثل هذه الزيارة خطاباً سياسياً يعيد رسم الحدود بين أدوار السعودية والولاياتالمتحدة والقوى الأخرى . رابعاً، إسهام الطرفين في ترسيخ معايير جديدة للاستقرار، تقوم على احترام سيادة الدول، وتعزيز الأمن الاقتصادي، والانفتاح على التعددية، وجعل التنمية أداة رئيسة لتحقيق الاستقرار. ختاماً، ومن منظور المقاربة البنائية، يمكن التأكيد أن العلاقات السعودية-الأميركية تشهد اليوم مرحلة إعادة بناء معرفي وهوياتي عميقة. فلم يعد العامل المادي، ممثلاً في النفط والسلاح، هو المحدد الرئيس لهذه العلاقة، بل أصبحت الهوية الدولية الجديدة للمملكة، وإعادة تعريف واشنطن لمكانة السعودية، والمعايير التي تضبط التفاعل بين الطرفين، والخطاب السياسي المتبادل، هي العناصر التي تعيد رسم ملامحها. إنها لحظة تأسيس لعلاقة جديدة أكثر عمقاً، تعكس التحولات الداخلية في السعودية، وتوازنات النظام الدولي، وتفاعل هويات الطرفين، لتنتج شراكة أكثر نضجاً، وأقرب إلى الندية، وأقدر على مواكبة عالم متعدد الأقطاب. * قسم التاريخ-جامعة الملك سعود