صوّر الزخم الإعلامي والسياسي الإقليمي والعالمي توقيع اتفاق الهدنة الأخير "خطّة ترمب"، بين حماس وإسرائيل، كلحظة فارقة قد تعيد تشكيل معادلات الصراع في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق -الذي كان مطروحًا بالصيغة نفسها في أواخر عهد "بايدن"-، لا يتجاوز في جوهره وفقًا لمعايير يوهان غالتونغ (مؤسس معهد بحوث السلام في أوسلو)، كونه "سلامًا سلبيًا"، حيث يتوقّف العنف المباشر دون معالجة الأسباب العميقة التي تغذّي الصراع. وتبدو هذه الترتيبات من منظور الواقعية السياسية (Political Realism)، كما يطرحها جون ميرشايمر، مجرّد تكتيك مؤقت يعكس توازنات القوى الإقليمية ومصالح القوى الكبرى، وتحديدًا الولاياتالمتحدة، التي تسعى لتثبيت ما بقي من نفوذها في منطقة مضطربة. وموجب هذه الرؤية غير المتفائلة هو غياب "نيات" وآليات معالجة القضايا الجوهرية ما يجعل مثل هذا السلام هشًا، فمثل هذه الاتفاقيات تركّز على إدارة الصراع بدلًا من حلّه. وهذا ما قد يجعل الوضع عرضةً للانهيار عند أول اختبار حقيقي. فالسلام لم يكن غاية بحد ذاته، بل هو تدوير للصراع بوسائل أخرى، أو هو في أفضل أحواله هدنة لالتقاط الأنفاس قبل جولة الصراع التالية. إن جذور الصراع، الممتدة منذ أواخر القرن التاسع عشر في فلسطين، ليست مجرد نزاعات على الأرض، بل هو صراع هويتين متناقضتين تشكلتا عبر قرون من الزمن. فالهوية الصهيونية تقابلها هُويّة وطنية (عربية) فلسطينية، وكل منهما يرى في الآخر تهديدًا وجوديًا. وهذه الرؤية، تفسرها النظرية البنائية (Constructivism) كما بلورها ألكسندر ويندت، إذ إن الهويات والمصالح نتاج تفاعلات اجتماعية وسرديات تاريخية (مقدّسة) عند كل طرف. ومن هنا، فإن الملفات العالقة –كالحدود، والقدس، وحق العودة، والمستوطنات– ليست مجرد ملفات تفاوضية، بل هي بذور مغموسة بالتراب والدين والدم تنتظر تأجيج هذا الصراع الوجودي. وكما ثبت فشل اتفاقيات أوسلو، فإن أي محاولة للسلام تتجاهل هذه الجذور العميقة محكوم عليها بالفشل، لأنها تترك مسبّبات الصراع حسب مصطلحات غالتونغ، كامنة تحت السطح، وجاهزة للانفجار مجدّدًا. ويمكن هنا، تفكيك دور القوى الكبرى في هذا المشهد من خلال منظور الواقعية السياسية المصلحية (Pragmatic Political Realism)، حيث تتحول الساحة الفلسطينية إلى مسرح لتصادم المصالح الجيوسياسية. فالولاياتالمتحدة، كحليف استراتيجي لإسرائيل، تستخدم خطّة ترمب لإعادة تعزيز نفوذها الإقليمي ومواجهة خصومها خارج وداخل المنطقة، مستفيدة مما بقي من زخم اتفاقيات أبراهام. وهذا الموقف يضعف مصداقيتها كوسيط نزيه، ويحول عملية السلام إلى أداة لخدمة مصالحها. في المقابل، تسعى قوى أخرى مثل روسيا والصين إلى استغلال الفراغات التي تخلفها السياسة الأميركية في المنطقة لتعزيز حضورهما، سواء عبر التدخلات السياسية أو المبادرات الاقتصادية. وهذا التنافس الدوْلي يعقّد الوصول إلى حل عادل، حيث تصبح الأطراف ذات العلاقة أدوات في لعبة أكبر تتجاوز حدود الصراع نفسه. فالقوى الكبرى، وفقًا للنظرية الواقعية، لا تهتم بالعدالة بقدر اهتمامها بتعظيم قوتها ومصالحها، وهو ما يفسر جزئيًا استمرار الصراع لعقود طويلة. وبالنظر إلى المستقبل، يمكن تصور مسارات متعددة للصراع. فعلى المدى القريب، قد تصمد الهدنة إذا ما تم الالتزام ببنودها، لكنها ستبقى رهينة أي خرق أمني. أما على المدى المتوسط، فإن استمرار الجمود السياسي والتوسع الاستيطاني قد يؤدي إلى تآكل حل الدولتين، مما يفتح الباب أمام اندلاع صراعات جديدة أو حروب بالوكالة. أما على المدى البعيد، فيبقى السيناريو الأكثر تفاؤلًا، مرهونًا بتحول جذري نحو "السلام الإيجابي"، وهو ما يتطلب "حلًا وسطًا" ينجم من وحدة و"استقلالية" القرار الفلسطيني، ويثمر بالاعتراف ببعض الحقوق الرئيسة ومن ثم بناء مؤسسات مشتركة، وتعزيز الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين طرفي الصراع. والأهم من ذلك، الاعتراف بالهويات وتناقضاتها وتجاوز سرديات الحق في "شطب" وجود الآخر بانتظار تتحقق إحدى النبوءات التي يؤمن بها الطرفان؟ وبدون هذا التحول، سيظل الصراع مفتوحًا متأثرًا بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وستبقى المنطقة ساحة تتهيأ لجولات جديدة من العنف. * قال ومضى: علاج الجروح لا يشفي جراح الروح..