يمكن النظر الى السياسة الاميركية في منطقة الخليج باعتبارها المتغير الاكثر تأثيراً في البيئة الاستراتيجية لهذه المنطقة، وذلك اعتباراً من مطلع العقد السابع. ويمكن القول على وجه التقريب ان هذه السياسة مرّت حتى الآن باربعة أطوار متداخلة أو منفصلة. إبان الحرب الباردة، رأى الباحث الأميركي وليام كوانت ان اهتمامات الولاياتالمتحدة في المنطقة انحصرت في ثلاثة أمور: تأمين امدادات النفط، والحفاظ على أمن اسرائيل، ومواجهة التمدد السوفياتي. وما قدّمه البروفسور كوانت يمكن اعتباره اطاراً مرناً لتحليل السياسة الاميركية في عموم منطقة الشرق، اعتباراً من عهد الرئيس دوايت ايزنهاور. وعلى مستوى الخيارات الاميركية في الخليج، أمكن النظر الى مبدأ ريتشارد نيكسون باعتباره طرحاً وسطياً بين خيار الاحلاف الاقليمية الذي تبناه ايزنهاور، وخيار التدخل العسكري المباشر. وخليجياً، نهض مبدأ نيكسون على ترتيبات اقليمية لم ترقَ الى درجة الاحلاف، وفي الوقت نفسه تورط الولاياتالمتحدة بالتدخل في أزمات اقليمية، بيد ان مبدأ نيكسون كان طوراً قصير الأجل في خيارات السياسة الاميركية. سقط هذا الخيار في فيتنام الا ان مرثاته لم تقرأ سوى بعد أربع سنوات في ايران، كما يقول نورمن بودورتز، احد أبرز دعاة المنظور الايديولوجي - الكوني في السياسة الخارجية الاميركية. وعلى خلاف خيار "الفصل" الذي ذهب اليه ثنائي نيكسون - كيسنجر، مثل "الجمع" خيار كارتر - بريجنسكي. فقد جمع الثنائي الاخير بين أسلوب ايزنهاور - دالاس التحالف الرسمي والتدخل وأسلوب التحالف غير المعلن والتدخل بواسطة الوكلاء. وفي الاخير، جاء مبدأ جيمي كارتر ليمثل الانعطاف الاكثر حسماً في الخيارات الاميركية في ما وراء البحار، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان الخليج العربي في طليعة المعنيين بهذا التطوّر. وحيث ان السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية بوسائل اخرى، فإن مبدأ كارتر كان في واقع الامر تعبيراً عن مناخ داخلي، أو لنقل إنه نمط جديد من القناعة الداخلية، متزايد في تأكيده على عضوية العلاقة بين الرفاه الداخلي والتفوق الخارجي. وفي ما يخص الخليج، مثل "مبدأ كارتر" التأكيد الأكثر وضوحاً على استراتيجية الربط بين أمن الطاقة والأمن القومي الاميركي. وفي العام 1991، وجد هذا المبدأ في "عاصفة الصحراء" أعلى تجلياته. بيد ان "عاصفة الصحراء" وحرب الخليج لم تكن نتاجاً صرفاً لخيار "تدخلي"، بل جاءت الحرب لتمثل خطاً فاصلاً بين عصرين، أو خطاً وسطياً في بيئة استراتيجية إنتقالية الطابع بالكثير من المعايير، بيئة بدت فيها العديد من المقولات والنماذج وتحوّلت فعلياً أو كادت، وهنا برزت مفاهيم الأمن كمثال صارخ. إن جوهر الردع والعلاقة بين الأمن الاقليمي والأمن الدولي وحدود المفاضلة بين العناصر المختلفة للقوة، شكلت خطوطاً عريضة لمعضلة كان يجب التصدي لها بمزيد من الجرأة. كان على المقاربة الاميركية لأمن الخليج ان تدخل سريعاً في اعادة تعريف جملة من المقولات الاساسية، خصوصاً تلك المتعلقة بتوزيع القوة ومعضلات التوازن. بيد ان الولاياتالمتحدة خرجت من حرب الخليج صفرة اليدين في ما يتعلق بإعادة التعريف هذه. سقط مبدأ توازن القوى في البيئة الخليجية بحكم الأمر الواقع، الا ان هذا المبدأ لم يسقط من المدرك الاستراتيجي الاميركي في المرحلة التالية مباشرة لحرب الخليج. أو لنقل، إستمر هذا المبدأ حاضراً في مضمون التصورات الاستراتيجية الاميركية المتعلقة بالخليج، وذلك حتى ربيع العام 1993. في ربيع ذلك العام، جاء الانعطاف في المفاهيم متمثلاً في الاعلان عن مبدأ "الاحتواء المزدوج" كدليل للسياسة الاميركية في منطقة الخليج. كان تبني هذا المبدأ إيذاناً بانتهاء "توازن القوى" كخيار حكم السياسة الاميركية في هذه المنطقة لعقدين من الزمن. استمد مبدأ "الاحتواء المزدوج" أصوله النظرية من الحرب الباردة، الا انه مثل التأطير الاستراتيجي الأهم لحرب الخليج نفسها. وفي المنظور الاستراتيجي، يمكن القول ان الوجود العسكري الاميركي الذي تطور في المنطقة مهد الطريق أمام تبني سياسة الاحتواء المزدوج، إذ تستند فلسفة الاحتواء في أحد أركانها على وجود قوة عسكرية متقدمة يستنفذها الطرف المحتوي في اغراض التهديد أو المواجهة الفعلية مع الطرف المراد احتواؤه، بذات الطريقة التي مارسها حلف شمال الاطلسي عبر أحزمة الطوق التي حاصرت الاتحاد السوفياتي ابان الحرب الباردة. ولم يكن من المحتمل ان تتبنى الولاياتالمتحدة سياسة "الاحتواء المزدوج" لو لم تندحر الحرب الباردة، وتندلع حرب الخليج. وفي وقت لاحق، بدت عملية "ثعلب الصحراء" ومسلسل الضربات العسكرية التالية لها، باعتبارها خطوة متقدمة على طريق الاحتواء، من حيث القوة جزءاً افتراضياً من الاحتواء. وبهذا المعنى، تكون الضربات العسكرية قفزت على الجدل النظري الدائر منذ نصف قرن حول العلاقة بين القوة والاحتواء، وما اذا كانت الأولى جزءاً أصيلاً من الثاني. وأكدت هذه الضربات على مستوى الممارسة الفعلية، ان العلاقة بين الامرين علاقة تلازمية. بيد ان حسم العلاقة بين القوة والاحتواء لا يعني، بأي حال من الاحوال، تسليماً تلقائياً بأولوية القوة على ما عداها من عناصر الاحتواء، وتحديداً عنصر الحصار أو الضغط بآلياته غير العسكرية، هذا العنصر الذي مثل الركيزة الاساسية في تجربة الاحتواء ابان الحرب الباردة الدولية. وفي التجربة الاقليمية الراهنة حال العراق لم يعد من السهل القول بان العلاقة بين القوة والحصار، كعنصرين في سياسة الاحتواء، هي علاقة ذات اتجاه تكاملي، بل ربما أمكن تلمس اتجاه تفاضلي في هذه العلاقة، في معنى ضرورة الاختيار بين العنصرين" ذلك ان الدمج بينهما الى الدرجة التي ينتقل فيها الخطاب السياسي من التلويح بالقوة الى استخدامها الفعلي قد يفضي الى نسف العنصر الآخر أي الحصار أو زعزعة آلياته بعنف. ان السياسة الاميركية حيال العراق، بما هي جزء من المقاربة الاميركية لأمن الخليج، اتجهت للأخذ بخيار الدعم المباشر للجهود الرامية الى اسقاط حكومة الرئيس العراقي صدام حسين. وهنا، نجد انفسنا أمام تعظيم متزايد لمضمون القوة في مفهوم الاحتواء، وهو تعظيم لا سابق له في التجربة التاريخية لهذا المفهوم. بدت المقاربة الاميركية لأمن الخليج في منأى عن أية منافسة حقيقية أو ذات مغزى من قبل الاطراف الدولية الاخرى، التي أخذت ادوارها في المنطقة تتوارى تدريجياً لاعتبارات موضوعية وذاتية. وعلى سبيل المثال، كشفت عملية "ثعلب الصحراء" وردود الفعل الاوروبية المتباينة عليها عمق التبعثر الاوروبي. وهي اثارت التساؤل ليس عن دور اوروبا في الخليج وحسب، بل عن دور اوروبا العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وما اذا كان انتهاء الصراع بين الشرق والغرب عزز من مكانة اوروبا استراتيجياً، ام جعل من هذه المكانة مجرد وهم استراتيجي. كذلك، كشفت عملية "ثعلب الصحراء" ومسلسل الضربات العسكرية التالية لها، عن عجز روسيا، التي بدا اعتراضها على السلوك الاميركي غير واضح في مدى فاعليته. بدا الخطاب الروسي وقد استعاد شيئاً من مناخ الحرب الباردة، واستشعر الحاجة الى ايجاد المعطيات الدافعة باتجاه اعادة البيئة الدولية الى سياق نسيجها السابق. بيد أنه من اللافت ان الروس، في مقاربتهم الخاصة بايجاد مثلث استراتيجي روسي - صيني - هندي، قفزوا أو كادوا على بعد أساسي في استراتيجيتهم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، هذا البعد المتمثل بالاتجاه غرباً "حيث تجد روسيا ذاتها" وليس شرقاً حيث اليابان، أو جنوباً حيث الصينوالهند. هذه القضية غير واضحة حتى الآن، وهي على الأرجح لن تتضح قريباً، الأمر الذي يضفي ظلالاً من الشك على مقولة المثلث الاستراتيجي الروسي - الصيني - الهندي، وما اذا كانت هذه المقولة تعبر عن عقيدة استراتيجية مستجدة، أم انها أتت كشكل من أشكال الضغط النفسي، غير الفاعل، على الولاياتالمتحدة. إن الأوروبيين والروس لم يضطلعوا بأي دور ذي مغزى في خليج ما بعد الحرب الباردة، وبدا من الواضح ان معضلاتهم الذاتية تحول دون ذلك. ومن هنا على الولاياتالمتحدة ان تتجه لتعميق البعد الاقليمي في مقاربتها الخاصة بأمن الخليج. ان على الولاياتالمتحدة اليوم ان تعيد الاعتبار للمقولة التي ترى في المحيط الهندي مسرحاً استراتيجياً واحداً، هذه المقولة التي طمسها تعاظم المضمون الكوني للصراع بين الشرق والغرب ابان الحرب الباردة. وبطبيعة الحال، ليست هذه دعوة للعودة الى المنظور الاقليمي، على النحو الذي قدمه جورج بول في مواجهة ثنائي نيكسون - كيسنجر، اذ ان هذا المنظور بحاجة الى الكثير من النقاش، فضلاً عن ان تحولات المناخ الدولي جعلت الأخذ به أكثر صعوبة. ان القوس الممتد من رأس لودين في جنوب الغرب الاسترالي ووصولاً الى سريلانكا شمالاً، ونزولاً الى رأس الرجاء الصالح جنوباً، يمكن ان يكون أكثر أمناً بفعل نسق أكثر قدرة على المزج بين الاعتبارات الاقليمية والاعتبارات الدولية. وحيث يمثل الخليج العربي احدى أكثر النقاط سخونة وحساسية في هذا القوس فإن توجيه اهتمام الاطراف الاقليمية اليه يبقى خياراً واقعياً. إن دولاً مثل الهند وباكستان يمكن ان تجد موقعاً ما في المقاربة الاميركية لأمن الخليج، كما ان الدور الاسترالي في شرق المحيط الهندي يجب ان يعود الى سابق عهده الناشط، وبالقدر الذي يتعمق فيه المضمون الاستراتيجي للعلاقات الاميركية - الاسترالية بالقدر الذي تجد فيه استراليا نفسها أكثر حضوراً في منطقة المحيط، بما في ذلك الخليج العربي. لذلك يجب تعزيز هذا المضمون، الذي بدا متراجعاً منذ نهاية عهد الرئيس جورج بوش. ان هذا الاطار الاقليمي، المعزز دولياً، لأمن الخليج من شأنه، حتى تبلوره، ان يوفر للدول الخليجية المزيد من المرونة في مقاربتها لمعضلات الأمن. وهنا على الدول الخليجية ان تعمل في وقت واحد على تحقيق أمرين أساسيين: الأول زيادة تفاعلاتها مع دول المحيط الهندي، وخصوصاً ضمن نطاقه الشمالي، والثاني تعزيز علاقاتها النوعية مع الولاياتالمتحدة. ومن الواضح ان هذه العلاقات لا تزال تشهد تفاوتاً بين شقيها الاقتصادي والاستراتيجي" اذ ان الاول أقل حضوراً من الثاني، وذلك على نقيض واقع العلاقات الخليجية - الاوروبية والخليجية - اليابانية، ولا ريب ان هذه الفجوة لا تخدم المساعي الرامية لخلق اطار أكثر ثباتاً للعلاقات الاميركية - الخليجية. لذلك، من المفيد لدول الخليج ان تعطي للولايات المتحدة أولوية واضحة في تجارتها الدولية. كما ان على مراكز الابحاث الخليجية والاميركية ان توثّق الصلات في ما بينها، بما يفضي لتشكيل رؤية علمية واضحة لمسار العلاقات المشتركة. * كاتب بحريني.