بقيت منطقة الخليج على الدوام كاحدى المناطق المعنية بمسار النزاع العربي - الاسرائىلي، والمتأثرة بتطوراته بالمعيارين السياسي والاستراتيجي. ومنذ مؤتمر مدريد للسلام، بدت المنطقة الخليجية أكثر التصاقاً بالحدث. وكان هذا التطور أحد التداعيات المبكرة لحرب الخليج، التي دفعت اسرائيل الى العمق الخليجي، أو هي اقتربت من ذلك فعلاً. بيد أن السلوك الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ومع البلدان العربية المجاورة طوّق تطلعات تل أبيب الخليجية، بل وقضى عليها. واليوم، يصعب النظر الى عودة حزب العمل الى السلطة باعتباره دفعاً تلقائياً لهذه التطلعات. بيد أن هذا الحدث سيرمي بشيء من التداعيات على المقاربة الاميركية للسلام الاقليمي، الامر الذي يعني خلقاً لمعطيات سياسية واقتصادية، وربما أمنية، قد لا تبدو واضحة قبل عام أو عامين، الا ان الخليج لن يكون بعيداً عنها. وتقليدياً، لم تكن اسرائيل بعيدة عن المقاربة الاميركية الخاصة بالخليج، وتحديداً تلك المتعلقة بأمنه الاقليمي. ومنشأ الحديث عن موقع اسرائيل في هذه المقاربة يعود بصفة أساسية الى الدور الاسرائيلي في سياسة الاحتواء إبان الحرب الباردة. بيد ان ذلك لم يعنِ في المنظور الاميركي ربطاً تلقائياً بين أمن الخليج والنزاع العربي - الاسرائىلي، بل استمرت مقولة هذا الربط مدار جدل لم يحسم بعد. وفي الأوقات كافة، لم يخضع هذا الجدل لاعتبارات استراتيجية بحتة، بل جاء متأثراً بالاتجاهات الايديولوجية السائدة لدى النخبة السياسية الاميركية. وهو بذلك اقترب في مضمونه من الجدل الدائر حول سياسة الاحتواء ذاتها، من جهة ما إذا كان يجب على هذه السياسة ان ترتكز الى اعتبارات استراتيجية بحتة أو الى معايير ايديولوجية صرفة. كانت عالمية الصراع بين الشرق والغرب، ومعطيات الجغرافيا والنفط ونمط الخيارات السياسية السائدة إقليمياً، تمثل المحفزات الاساسية للجدل الخاص بالعلاقة بين أمن الخليج والنزاع العربي - الاسرائىلي. وبالقدر الذي يتزايد فيه المنظور الكوني للنزاعات الاقليمية يبدو الربط الاستراتيجي بين القضيتين أكثر وضوحاً، بحكم الأمر الواقع. في مطلع العقد الثامن، كان هناك شيء من التصور بأن المقاربة الاميركية للعلاقة بين أمن الخليج والنزاع العربي - الاسرائىلي آخذة في التشكل وفق معادلة صفرية، بمعنى ان مزيداً من الاهتمام بمنطقة الخليج العربي من شأنه ان يفضي بالضرورة الى إنخفاض في درجة الاهتمام بمسألة النزاع العربي - الاسرائىلي. بيد أن هذه المقاربة ما لبثت واصطدمت بالتطورات التي فرضت نفسها بقوة متزايدة، كما اصطدمت في الوقت نفسه بماهية العلاقة بين الاعتبارات الاستراتيجية والحس الايديولوجي، هذه العلاقة التي بدت مأزقية أكثر من أي وقت مضى. ومع انتهاء حقبة الثمانينات، بدت حرب الخليج بمثابة استهلال عنيف للعقد الجديد. كان أمن اسرائيل أحد أسباب شنّ الحرب، بيد ان تداعياتها النهائية لم تصب جميعها في المصلحة الاسرائىلية، كان إندلاع حرب الخليج على انقاض الحرب الباردة قد عنى أكثر من معنى بالنسبة لاسرائيل ولمقولة "الذخر الاستراتيجي" التي لازمتها منذ مطلع الثمانينات. ويمكن القول انه اذا كانت بيئة الوجود العسكري الاميركي في الخليج خلال العقد الثامن عززت من مكانة اسرائيل في المقاربة الاميركية لأمن الخليج، فان التحوّل الذي طرأ على هذه البيئة بعد حرب الخليج بدا وكأنه دفع في الاتجاه المعاكس. كما أعطى المناخ السياسي الذي أفرزته هذه الحزب مزيداً من المبررات للمضي قدماً في برامج تسليح دول المنطقة. وبدت هذه النتيجة متناقضة مع النتيجة التي خرجت بها اسرائيل والقائلة بأن تطور الحضور العسكري الاميركي ينفي الحاجة لادامة هذه البرامج. وعلى رغم إمكان القول بشيء من الحذر بأن التداعيات السياسية لحرب الخليج هي وليدة تداعياتها الامنية، يبدو الشق السياسي من التداعيات متبايناً في نتائجه مع الشق الامني، من حيث الأثر الفعلي على الدور الاسرائىلي في منطقة الخليج العربي، أو لنقل على موقع اسرائيل في المقاربة الاميركية الخاصة بهذه المنطقة. كان انهيار التوازن الاستراتيجي الهش في الخليج أولى التداعيات الامنية الاساسية للحرب، وكان التداعي الثاني لها تعزيز الوجود العسكري الاميركي المباشر. وهذان المعطيان لا يوفران، من الزاوية النظرية، مبرراً لتعزيز موقع اسرائيل في المقاربة الاميركية لأمن الخليج، على رغم صحة القول بافادتها منهما في المعيار الاستراتيجي العام. أما على المستوى السياسي، فيبدو المشهد في اتجاه مختلف، إذ شهدت مرحلة ما بعد الحرب تطورين اقليميين أساسيين: إنطلاق مسيرة التسوية السلمية من مدريد، واعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لايران والعراق. وهي السياسة التي استندت اليها الدعوة الاميركية الصريحة باسقاط النظام الحاكم في بغداد. هذان المعطيان، كانا على خلاف سابقيهما، عامل تعزيز لموقع اسرائيل في المقاربة الاميركية لأمن الخليج. وفي البعد الخاص بسياسة الاحتواء في نموذجها الاقليمي الراهن، يمكن تلمس دور اسرائيلي، ضمني أو مباشر، من خلال برامج أميركية - اسرائىلية وبرامج واتفاقات اسرائىلية مع اطراف شرق أوسطية كتركيا. ويمكن القول انه كلما تزايد المضمون الايديولوجي في سياسة الاحتواء، كلما بدت فرص الدور الاسرائىلي أكثر وفرة. وهنا، يمكن الوقوف على علاقة عكسية بين فرص الدورين الاسرائىلي والتركي من جهة وفرض الاقتراب الايراني - الخليجي من جهة اخرى. ان صعود الاتجاه القومي اليميني في تركيا سيدفع في التحليل الأخير باتجاه تعزيز التحالف التركي - الاسرائىلي، وان عودة حزب العمل الى السلطة في تل أبيب سيعيد احياء التطلعات الاسرائىلية في الشرق الاوسط، وتعزيز موقع اسرائىل في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة. وسيدفع هذان المتغيران باتجاه زيادة الضغوط على فرص الدور الايراني في الخليج، فضلاً عن الدور العراقي. وحين يُقدر لحرب البلقان ان تضع أوزارها فستكون الولاياتالمتحدة أكثر تفرغاً لبلورة مقاربتها الخاصة بأمن الخليج، ويرجح ان يكون احد دروس البلقان التي ستخرج بها واشنطن هو التأكيد على خيار وجودها العسكري المكثف في الخليج والمحيط الهندي. ولن يبدو الدور الاسرائىلي وقد أفاد مباشرة من هذه النتيجة، لكن الاسرائىليين والاتراك سيفيدون منها بصورة ضمنية، إذ ان هذه النتيجة ستعني المزيد من الضغط على فرص الدورين الايراني والعراقي في المنطقة. وكما هو معروف، لا تزال مسألة الحضور العسكري الاميركي موضع خلاف خليجي - عراقي، وخليجي - ايراني، وأثيرت بقوة خلال الزيارة الاخيرة التي قام بها الى الخليج الرئيس الايراني سيد محمد خاتمي. وإذا قدر النجاح للمقاربة القائلة بتعويم البيئة الخليجية، عبر دمجها في منظومة اقليمية أوسع يمثلها الشرق الاوسط، فسيعني ذلك تعزيزاً مباشراً للدور الاسرائىلي، وتبعاً التركي. وكلما تقدمت مسيرة التسوية السلمية في المنطقة كلما وجدت اسرائيل نفسها أكثر حضوراً في الخليج العربي. وان حال كهذه، سيكون من تداعياتها الضمنية تعزيز القناعة الخليجية بجدوى دور باكستاني استراتيجي في المنطقة. وعلى رغم ان هذا الدور لا يمثل رغبة أميركية راهنة، الا ان تطورات الاحداث تدفع باتجاه اعادة تقييم أميركية لدور باكستان الاقليمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وان احدى نتائج اعادة التقييم هذه قد تكون القبول بدور باكستاني، من درجة ما، في الخليج العربي. * كاتب بحريني.