في ليلةٍ اتسعت فيها الذاكرة مثل أفق الصحراء، وتداخل فيها التاريخ بالسرد والهوية، انعقدت أمسية بعنوان: "فيلق الإبل.. عبور الذاكرة وسرديات الهوية" بتنظيم من نادي ملتقى المبدعين الثقافي، وبالتعاون مع "منصة هاوي" الثقافية، احتضنها مقهى تشكيل قدمها الكاتب والروائي أحمد السماري، وسط حضور عدد من المثقفين والمهتمين بالسرديات التاريخية في لقاءٍ احتفى بالذاكرة المنسية، وأعاد ترتيب السؤال حول الهوية ومسارات التاريخ. أدارت الأمسية الأستاذة مريم آل سميح التي قدّمت الضيف بأسلوبٍ واثق وحضورٍ أدبي منح اللقاء اتجاهه وعمقه منذ الدقائق الأولى. واستعاد الكاتب شرارة البداية التي انطلقت من مقالة كتبها الصحفي والكاتب محمد الساعد عام 2022 بعنوان: "قصة 18 سعوديًا ساهموا في حرب الوحدة الأمريكية"، والتي سلّطت الضوء على واقعة تاريخية نادرة: عبور الإبل العربية للصحراء والبحار وصولًا إلى أريزونا ضمن مهمة عسكرية في منتصف القرن التاسع عشر. هذه المفارقة التاريخية صنعت السؤال الأول للكاتب، ثم قادته إلى المصادر والوثائق وشهادات العقيلات، ثم إلى بناء عالم الرواية. وأوضح الكاتب السماري أن العمل مرّ برحلة بحثٍ طويلة، انتقلت من الوثيقة والمحفوظات والتاريخ الرسمي، إلى مساحة السرد الفني الذي يمنح الحدث روحًا وذاكرة. وقال في الأمسية عبارة لاقت تفاعلًا كبيرًا من الحضور: "الحقيقة تُظهر الحدث... لكن السرد يمنحه حياة تستحق أن تُروى". بعدها توقف الكاتب عند شخصية الحاج علي (العقيلي علي بن سالم) بوصفها الشخصية المحورية في الرواية، وصوت الهوية العربية في مواجهة الحداثة الغربية. وحول هذه الشخصية تشكلت ثلاث دوائر سردية تمثل مستويات الصراع: الوجداني، الثقافي، والحضاري، وتُجسّد مرحلة انتقال العرب من المحلية إلى العالمية دون التخلّي عن القيم. وأكّد الكاتب أن الرواية ليست فقط سردًا لحدثٍ تاريخي، بل إعادة تشكيل للوعي والهوية وربط الأجيال بجذورٍ حضارية أعمق مما يبدو في السرد التقليدي. إنها محاولة لإحياء ذاكرة منسية، وإعادة تسمية القيم التي صنعت شخصيات مثل العقيلات، والتي شقّت طريقها عبر التاريخ لا عبر الحدود فقط. وقد شهدت الأمسية مداخلات ثرية أثرت النقاش ومنحت العمل زوايا قراءة متعددة، ومن بين المتداخلين: د. ظافرة القحطاني، والأستاذ عوضة الدوسي، والزميل مدير التحرير عبدالله الحسني، والكاتب محمد الساعد عبر مداخلة هاتفية، والكاتب علي بن سعد السرحان، والروائي سلطان المنيف، و د. عبدالمحسن الحقيل. وقد جاءت هذه المداخلات امتدادًا طبيعيًا لروح الأمسية، حيث تحولت من عرضٍ أحادي الصوت إلى حوار ثقافي تشاركي حول التاريخ والسرد والهوية. وفي ختام الأمسية، قام مدير ملتقى المبدعين الثقافي، العميد د. عبدالله القحطاني بتكريم الكاتب بدرع تذكاري تقديرًا لجهده في إحياء أحد الفصول التاريخية المهملة، وتحويلها إلى سردٍ أدبي تفاعلي يعيد الحكاية إلى مكانها الطبيعي في الذاكرة. غادر الحضور وهم يحملون سؤالًا لا يقل دهشة عن بدايات الحكاية: هل كانت رحلة الإبل عبر المحيط؟ أم كانت رحلة الهوية إلى وعي جديد؟! جانب من الحضور رئيس نادي ملتقى المبدعين العميد عبدالله القحطاني مكرماً السماري