على مدار الساعة تتعمق الهُوَّة بين واقع المجتمع العربي المعقّد، وصوته وصورته الرقمية بصورٍ تتلاعب بالوعي السياسي الجمعي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تشريح هذه الظاهرة الاتصالية الجديدة وفق مفاهيم علمية تُظهِر جذورها وتشخّص واقعها ومآلاتها، ومنطلق التحليل هنا أن ما من شك في حقيقة أن منصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسائط حيادية لنقل وتبادل الأفكار والمعلومات، بل تحوّلت إلى "أسواق إعلامية" قائمة بذاتها، تُسهم في "تسليع" السياسة والقيم وتحويلها إلى بضائع استهلاكية تخضع لمنطق "اقتصاد الانتباه" (Attention Economy). وهذا المفهوم، المستند إلى تحليل هربرت سايمون للندرة المعرفية، يعني أن المنصات الرقمية العملاقة (جوجل، فيسبوك، تيك توك، يوتيوب، إنستغرام، إكس، نتفليكس..) لا تبيع منتجات مادية، بل تتاجر ب"انتباه" المستخدمين كسلعة استراتيجية، تُباع للمعلنين والجهات الساعية إلى التلاعب بالرأي العام، وفي هذا السياق، يتحول المستخدم من مواطن فاعل إلى "سلعة" (Commodity)، حيث يُجمع وقت استخدامه ويُغلف ويُباع بالثانية، لمن يدفع. وفي هذا السياق، تنتج وسائل التواصل ما يُعرف في حقل الدراسات الاتصالية ب "الإطار الإعلامي" (Media Framing) الذي لا يقدم الحدث والمعلومة فقط (التأثير الأول)، بل يحدّد كيفية تفسيرها. وهذا يعني أن التأثير لا يقتصر على إخبار الناس بما يجب أن يفكروا فيه بل يتعداه إلى كيف يفكرون في الأمر (التأثير الثاني)، وهكذا تتحول القضايا المصيريّة إلى "مفاهيم ووجهات نظر" مبسطة أو موجّهة تخدم "الخطاب الشعبوي / التعبوي" المؤدي لدفع شرائح من الجمهور إلى التعصّب في فقاعات (أقفاص) فكرية متشنجة. وتعتمد هذه الآلية على ما يصفه علماء الاجتماع ب"نظرية الاتصال الدائري" (Circular Communication Theory)، حيث تخلق هذه المنصات "دوائر مغلقة"، تُعزز فيها "الأفكار المسبقة" وتنتج ما يُعرف ب"التأثير الثالث" حيث يميل الأفراد إلى الاعتقاد بأن الآخرين (الشخص الثالث) أكثر تأثُراً بالرسائل الإعلامية منهم. بمعنى: "أنا لست متأثراً بهذا المحتوى، لكن الآخرين يتأثرون به كثيراً". وفي العالم العربي، حيث تتداخل (تتصارع) مختلف "الهويات" مع "المجال العام الهش" (Fragile Public Sphere)، تتحول هذه الظواهر إلى إشكاليات كبرى. ف"الرأي العام" الذي كان يُفترض أن يكون نتاج "الحوار العقلاني" في "الفضاء العام"، يتحول إلى بضائع "عواطف جماعية" تدار عبر "الإثارة والتعصّب" فيما يشبه "سوق الأفكار" الذي تتحكّم فيه "قوانين العرض والطلب" الرقمية. وهذا يأتي وفقًا لنظرية "الحتمية التقنية"، أن الوسيط هنا، لم يعد مجرد ناقل بل أصبح مشاركًا فعالًا في صياغة الرسالة وتشكيل وعي المتلقي معًا. وعلى شبكات التواصل تتضح الصورة أكثر، حيث لا تتبع "خوارزميات الترشيح" معايير الحقيقة أو الصحة، بل تخضع ل "منطقية آلية" قائمة على "الاستقطاب العاطفي" و"الانتشار الفيروسي الآلي" للمعلومات والأفكار. ولعل هذا يفسر ظاهرة "الاستقطاب المبرمج" حين تعزّز الآليات مظاهر التطرف غير الأخلاقي والشذوذ الفكري فتجذب بعض الشباب حين يُخصّص له ما يعزز أفكاره، مما يُنتج في النهاية وعياً مشوّهًا أو "زائفاً" (False Consciousness) بالواقع. وتتجلّى خطورة هذه الظاهرة الرقميّة في العالم العربي مع فرض الخوارزميات "أنماط من الهويات" الفكرية / السياسية الجديدة التي تبرز كل خلاف، وتعيد إنتاج الانقسامات التقليدية بأشكال مبتكرة. وفي مواجهة هذه التحولات الجوهرية، لم تعد مبادرات "محو الأمية الإعلامية" التقليدية كافية، بل نحتاج إلى "تربية نقدية رقمية" تعيد تعريف العلاقة بين التقنية والمجتمع، فالفجوة لم تعد بين المعلومة والجهل، بل بين "المعرفة العميقة" و"المعلومات السطحية" التي تنتجها "اقتصاديات البيانات". الخلاصة؛ نحن أمام تحول وجودي في مفهوم الممارسة المجتمعيّة الثقافية والسياسية في الفضاء الرقمي، حيث تحولت هذه الممارسات من الوضع الإنساني الطبيعي التشاركي كنشاط و"فعل جمعي عقلاني" إلى "عرض مسرحي عاطفي" تُوجهه وتتحكّم فيه آليات "الوسائط الرقمية" ومَن هم خلف شاشاتها. * قال ومضى: الأسوأ من غياب الحرية.. إساءة استخدامها حينما تُتاح.