لم تكن الكتابة يومًا مجرد تعبير لغوي بالنسبة لي، بل كانت دائمًا مساحة نجاة تفتحها الروح حين يثقلها كل ما لا يُقال. هناك علاقة لا تُرى بين القلم والقلب؛ علاقة يتخفف فيها الداخل كلما تحولت المشاعر إلى كلمات مرتبة، وكأن الكتابة تملك قدرة خفية على إعادة تشكيل مزاج الإنسان من جديد. في لحظات الحزن، حين تصبح الأصوات الداخلية عالية ومربكة، أكتب. لا لأشرح ما أشعر به، بل لأتخلص منه. فالكلمة المكتوبة قادرة على حمل ما لا تستوعبه النفس، وعلى تهدئة تلك الحشود المتداخلة من الانفعالات التي لا تجد طريقًا للخروج إلا عبر الكتابة. الخواطر والقصص تفتح لي بابًا آخر؛ بابًا أكون فيه خارج العالم وداخله في آن واحد. هناك أكتب لأتنفس، لا لأؤدي مهمة. تتيح لي الكتابة الإبداعية أن أكون صادقة بالكامل، بلا شروط، بلا توثيق، بلا سباق مع الزمن. هي المساحة التي تشبه ارتخاء العضلة بعد جهد طويل، أو عودة الضوء بعد عتمة قصيرة. أما الكتابة الصحفية فهي عالم موازي... جميل في تجربته، مرهق في تفاصيله، وصارم في إيقاعه. لا تمنحك رفاهية الاسترخاء؛ بل تتطلب منك انتباها مضاعفًا، وتركيزًا دقيقًا، وقدرة على ملاحقة الفكرة من لحظتها الأولى إلى نهايتها. في كل مادة صحفية أعمل عليها، هناك لحظة أشعر فيها بأن رأسي يمتلئ أكثر مما يحتمل معلومات، تصريحات، تفاصيل، تواريخ، أسماء، محاور، وأفكار تتزاحم حتى تبدو كصوت عالي داخل الرأس. ومع ذلك أواصل... لأن الكتابة الصحفية رغم تعبها، تحمل لذة لا تشبه أي لذة أخرى. اللذة التي تأتي مع السطر الأخير. مع المراجعة الأولى. مع قراءة المادة بعد أن استوت على مهل أمامي. ومع ذلك الاحتضان الغريب الذي يحدث في اللحظة التي يُنشر فيها النص للناس. عند النشر فقط، تتحول كل الدقائق التي أرهقتني إلى نتيجة ملموسة: إنجاز صغير بطعم كبير. فرح يخص الكاتب فقط، لأنه يعرف كم بذل من نفسه في كل عبارة. ولعل أكثر ما يدهشني أن العلاقة بين التعب والكتابة علاقة غير منطقية، لكنها موجودة: أكتب لأرتاح... وأتعب لأكتب أفضل... وأفرح حين يكتمل النص. وكلما كتبت أكثر، أدركت أن الكتابة ليست مجرد مهنة، بل طريقة لفهم الذات، ولمعالجة ما يحدث في الداخل، ولتحويل الألم إلى شي يمكن الوقوف فوقه لا الغرق فيه. وهكذا، بين الكتابة التي تُرهق، والكتابة التي تُنعش، أجد نفسي دائمًا في المنتصف: أكتب لأعيش... وأعيش لأكتب.