في كل يوم، كانت الوحدة تنسج خيوط عزلتها بإحكام حوله وتُلبسه رداءً يثقل كاهله بعبء الزمن. والقدر، ورغم أن أبناءه وبناته والجيران والأصدقاء كانوا يحيطون به كالهالة، ورغم نزهاته مع الأصحاب، وأسفاره التي تخطت حدود الرياض، إلا أن الوحدة ظلت رفيقة دربه؛ لم يستسلم لها، لكنه لم يفلح في الفرار منها، تقبّل الفراق كقدر محتوم، كنصيب توقف عند هذه المرحلة، لكن الألم ظل يعتصر قلبه كوحش كاسر ويسأل نفسه: "لماذا يلتهم الوقت من عمري وهذا القلق لا يهدأ؟" سؤال يتردد صداه في أعماقه وكأن الحزن والألم قد امتزجا بروحه، صارا جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، لكن اليوم، قرر أن يواجه هذا الألم، أن يذهب إليها، ليبوح لها بما يثقل روحه، لعل البوح يخفف وطأة ما يعانيه، استقل سيارته وانطلق نحوها وعندما وصل لمكانها، سلم عليها ثم قال لها بصوت يملؤه الشوق: "لم أعد أحتمل، الشوق إليكِ يزداد كل يوم!" فأجابته بصوت خافت، لكنه يحمل حنانًا أبديًا: "وأنا أيضًا أشتاق ولكن هل ارتوى شوقك بلقائي في الزيارة السابقة؟ وهل عندما ترحل ستعود أفضل حالًا؟ ظننت أن مرور الشهور كفيلة بأن تنسيك إياي، وقد طلبت منك في مرضي، وقبل رحيلي أن تتزوج، لا تعش وحيدًا، فمن حقك أن تحيا وتسعد بدوني، فالرحيل لم يكن خياري ولم أحب سواك، لكن القدر رفض بقاءنا معًا وكانت محاولاتنا لمقاومته ضربًا من العبث، لم يكن بأيدينا سوى الفراق، رجوتك قبل الفراق أن تتزوج وتغمر شريكة حياتك الجديدة بالحب الذي يفيض من قلبك، لكنك عنيد". صمت قليلًا، ثم نظر إليها بعينين دامعتين، لكنهما تفيضان بالعشق الأبدي: "في مرضك، كنت مشغولًا برعايتك في المنزل، بغذائك ودوائك وبمواعيدك في المستشفيات، والعيادات وبالدعاء لكِ، كنت أتوسل إلى الله دومًا بأن يشفيكِ، لم أكن مهيئًا نفسيًا للزواج، وبعد رحيلك، فقدت الرغبة في الزواج، رغم عروض الأقارب والأصدقاء، لأني لن أجد روحًا كروحك، وروحي ليست مهيئة للزواج بغيرك، إلا إذا شاء القدر، فأنا مازلت أتذكر ابتسامتك وضحكاتك وكلماتك في كل مكان جمعنا، فتغمرني السعادة، لأن ذكراكِ حية في قلبي، لأنك لم تموتي بالنسبة لي. صحيح أنني أنشغل بالمسؤوليات والعمل، وقراءة القرآن الكريم، والكتب والكتابة، لكن طيفك يزورني في كل زاوية من زوايا المنزل، أراكِ تضحكين هنا، تتألمين هناك، أو حينما كنتِ تتحدثين معي وتضحكين معي في المطبخ أو الصالة أو غرفتك، وحين أسمع اسمك من الآخرين يتردد بالخير، تشتعل نيران الذكرى في قلبي، حاولت تجاوز رحيلك، لكنني لم أستطع وصرت أكتفي بلقائنا الأسبوعي، دقائق تمدني بالحياة، تشعرني بالتنفس كلما اختنقت روحي، أعود من عندك ممتلئًا بالأمل والسعادة". قاطعته قائلة بحب: "أنا رحلت حتى لا أثقل عليك في مرضي، فضلت الرحيل قبلك حتى لا أتعب من بعدك، فلو رحلت أنت قبلي، لتضاعف ألمي ولم أجد أحدًا يهتم بي ويخاف عليّ مثلك". صمت والدموع تترقرق في عينيه، ثم ابتسم وقال وفي عينيه بريق الأمل: "تدرين ما سر الحكاية؟ الوقت يمر ولكل شيء لابد نهاية وكلنا راحلون في يوم ما، أنتِ لم تثقلي علي فقد كان واجباً علي رعايتك وكنت سعيداً بخدمتك وكنت لا أنام حتى أراك نائمة، بأن أكون معك في شدّتك، ومرضك، وأنتِ زوجتي، وأم لعيالي، وأنا مسؤول من الله عنك؛ لأنك أمانة في عنقي، لذلك لن أنساكِ أبدًا يا مهجة القلب، وقرة العين ورحيلك عن الحياة، وتشييع جنازتك ليس معناه الوداع الأخير، سأظل أزورك وأدعو لك، وسألتقي بكِ في جنات النعيم -بإذن الله- وسنحيا حياة سرمدية، ننعم بالنعيم معًا، كما عشنا في الحياة معاً، وما يطمئنني ويريح بالي، أنك رحلت بجوار رب كريم رحيم، سيكرم مثواك، فقد رأيتكِ في الحلم جميلة كحورية وسعيدة بصحة جيدة وتمشين برشاقة، كما رآكِ غيري بحال جميلة وتضحكين بأحلامهم من الذين يحبونك". رفع يديه يدعو لها، دون أن يشعر بابنه الواقف بجانبه، الذي كان يراقبه وهو يتحدث إلى قبرها، يهز رأسه كأنه يسمع ردها، فخلال شهور من رحيلها، كان يأتي أسبوعيًا دون موعد، يمضي نصف ساعة أمام قبرها ويسرقه الوقت حتى يحل عليه ظلام الليل، حيث أول ما يأتي للمقبرة يعطي عامل المقبرة مالًا لإحضار الكرسي له ليجلس عليه ويجعله يأخذ كرتون الماء البارد من شنطة سيارته ليوزعه على الزوار والعمال وينوي ذلك بأن يكون أجراً لها ويوصيه بالاهتمام بقبرها، كان أحد أبنائه يرافقه أحيانًا، يرى في والده رمزًا للحب والوفاء، يوصيهم بزيارتها، لتسعد والدتهم برؤيتهم ودعواتهم لها وصدقاتهم عنها، كان يعود إليها في كل مرة، مهما كثرت مشاغله، لأن حبه لها أقوى من كل شيء.