في هذه الزاوية سيأخذنا الدكتور صباح التميمي الكاتب والناقد العراقي، شارك في تحكيم وتقييم كثير من الأعمال الإبداعية في مسابقات أدبية في العراق وخارجه، ورفد المكتبه العربية بعدة مؤلفات منها: «شعريةُ النصِّ الموازي في الخِطَابِ الشَّعْرِي المُعَاصِر»، و»قراءة في أسرار البِدَايات»، و»شعرية الخطاب الروائي في سواقي القلوب»، إلى عوالم القراءة من خلال ما اطلع عليه مؤخراً ويوصي بقراءتها. «البخلاء» عمرو بن بحر الجاحظ هذه التحفة الفنيّة التراثيّة، بل في الحقيقة موسوعة للدراسات الثقافيّة المعنيّة بزاوية من زوايا الثقافة القديمة، على الرغم من صغر حجمه، فهو يُقدّم لنا قراءات ساخرة لظواهر ثقافيّة سالبة، ويُعنى بملاحقة أنساق الثقافة الراسخة فيها، ويحاول فضحها؛ لمعالجتها، فالجاحظ يمتلك ولعاً عجيباً للتأمّل في حالات الثقافة العامة، ولا يقتصر على نوادر (البخل)؛ فهو يُقدم خلاصات ثقافيّة عن أساليب معيشة العرب، وعن أطعمتهم وضروبها، وعن حالهم في الجدب والخصب، مُعزّزاً ذلك باستدعاء صور من الشعر والنثر، والخطاب الثقافي في هذا الكتاب مبني على الأسلوب السردي؛ فمعظم ما يعرض لنا هو من مشاهدات المؤلّف القصصيّة أو تلك التي ينسبها لغيره ولها صلة بالبخل. مع دقةٍ في الوصف تُشعرك بأنّ الجاحظ يحمل كاميرا ويجوب الأزقّة بحثاً عن مشهد يُصوّر نادرة من نوادر البخلاء، فوصفه من الدقة بمكان بحيث تشعر معه وكأنّك تلامس تفصيلات هذه الظاهرة، وتعيش وسط ضجيجها، وكان يصدر في وصفه عن دقة ملاحظة وخيال خصب، ويُعنى جدّاً بالتفصيلات حتى الصغيرة منها؛ لكي يُقدّم صورة بانوراميّة ساخرة لفعل البخل وفاعله، وكان منهمكاً جداً، وكأنّه يمارس الرسم بالكلمات، بحيث تشعّ من جملِه طاقة متفجّرة مثيرة؛ محافظاً –بذلك- على إدامة التواصل بينه وبين المتلقّي لأطول فترة ممكنة. ينجح هذا الكتاب في أن يضعنا في سياق عوالم البخل الشعورية بدقّة عجيبة؛ إذ يُفرط في نقل أحاسيس البخيل، وما يصاحبها من حركات جسد، تُمثّل هوية فاعل البخل، والعلامة الدالة على مرضه بين الناس، وكأنّه مولع بتقصّي عيوب الآخر البخيل، والحالات الشعوريّة التي يمرّ بها لحظة ممارسته لفعل البخل. «هكذا تكلّم زرادشت» فريدريك نيتشه تظلّ أسئلة الفلسفة هي المجال التمثيلي لأسئلة الكائن البشري الإشكاليّة، تتردّد على طول خطوط مسارات حياته، فما يخرج من دهليز (سؤال) حتى يدخل في دهليز آخر (سؤال آخر)، باحثاً عن هُويّته المعرفيّة. في هذا الكتاب يُقدّم (نيتشه) خلاصات فكره الفلسفي؛ لذا نجده يُسمّيه (دهليز فلسفته)، وقد أخلص (نيتشه) للمعرفة، وأفنى حياته مثيراً لأسئلتها، وحاول تلخيصها في هذا الكتاب، بطريقة سرديّة على لسان (زرادشت) الفارسي أو (زارا)، يأخذ فيها نيتشه دور (السارد العليم بكلّ شيء) طارحاً من خلال البطل المحوري (زارا) الأسئلة التي تبدو أكثر إثارة للهمّ المعرفي، بلغة بسيطة، وعبر بنية حوارية يُضمّنها (فذاذات فلسفيّة قصيرة)، تعالج أعقد الأسئلة وأكثرها إشكاليّة في حياة المعرفة، ومنها أفكاره عن (الإنسان المتفوّق)، وقد خلّف هذا الكتاب أثراً خطيراً في شتى مجالات الحياة، حتى أن بعض الجنود في الحرب العالمية الأولى كانوا يضعونه في حقائبهم، وقد بالغ بعض من قرأ نيتشه في خطورة هذا الكتاب حين جعل أفكاره الأساس الذي قام عليه الفكر النازي، ما جعله واحداً من الأسباب التي أشعلت الحرب العالمية الثانية. وأختم بقول زارا الذي توجّه به إلى (الناس الراقين) لأهميّته: «إذا أردتم بلوغ الذرى فتسلقوها بأرجلكم، ولا تطلبوا أن تُحملوا إليها حملاً على ظهور الغير ورؤوسهم». «محنة التغيير» إيريك هوفر ولكم في القراءة حياة، هذا الكتاب يكشف عن سرّ التداوي بالقراءة، فهو خلاصة أفكار إنسان نهض بعد كبوة قاسية، فقد أفضت به الحياة إلى مجاهلها، وانتهت به إلى أن راودته نفسه بأن يضع لحياته حدّاً، ويصنع لوجوده المتلكئ فيها نهايةً مأساويّةً مُسْتَسْلِمَة (حين حاول الانتحار)، بعد أن فقد بصره وهو في سنّ السابعة، وتوفّيت والدته، لكنه نهض نهضة قارئٍ نهمٍ جعل من القراءة سبباً من أسباب تجديد الحياة واستمرارها بنجاح، فبعد أن عاد له بصره – بقدرة الله – وعاش هدنة مع الحياة، بدأ هوفر يقرأ بنهم فقرأ (دوستوفسكي – سبينوازا – أرسطو –أنشتاين – تشيخوف - وغيرهم)، فصبّ خلاصة قراءاته وأفكاره في هذا الكتاب، فهو مدوّنة مهمّة تُمثّل خلاصة تجربة إنسانيّة لامست المعاناة وقاستها عن كثب، وهي مدوّنة تداوي، لا مجرّد كتاب، تساعدنا على فهم تمرحلات الإنسان وتحوّلاته بإزاء التغيير عبر التاريخ، وتكمن أهميّته في كونه وصفة جيّدة لمداواة من يخضعون لتغيير جذري، ثمّ لا يعثرون إلا على فرص ضئيلة للحياة، فلا يُسمح لهم بتحقيق الذات من خلال المساعي الفردية، فيكتب لهم هوفر وصفة علاج ناجعة بقوله: «في هذه الحالة، يُوجِّه التوقُ إلى الثقة والقيمة والتوازن نفسه نحو تحقيق البدائل، الإيمان هو البديل عن الثقة، الكبرياء هو البديل عن احترام الذات، أمّا الاندماج مع الآخرين في مجموعة مُدمَجة فهو بديلٌ للتوازن الفردي». هذا الكتاب ينطلق في فهم الذات الفرديّة عبر تاريخ الآخر الجمعي وتحوّلاته، فيُفكّك بنية الحركات الجماهيرية للتغيير، ويؤسس لرؤيته الخاصة استناداً إلى تجارب الجماهير، وفيه مسعى حثيث إلى إثراء ذهن القارئ الذي يسعى إلى فهم العالم والإنسانيّة بطريقة أكثر إيجابيّة، فهو يقتفي آثار صحوات الشعوب في العالم؛ ليُحوّلها إلى نسخ من تجارب جاهزة للتطبيق، لذلك قلتُ عنه أنه يكشف عن سرّ التداوي بالقراءة، فالقراءة سرٌّ من أسرار الاستمرار بحياة أفضل خالية من كدمات السوداويّة. «كيف تلقّن كلبَكَ الفلسفة» أنطوني ماكغاوان بهذا العنوان الصادم يحاول هذا الكتاب عبر آليات (السرد السير ذاتي)، وبلغة طريفة ومُحبّبة أن يدسَّ لنا ضميمةً مليئةً بالأسئلة المعرفيّة الإشكاليّة تُعرض لنا من خلال محاورات المؤلّف ومشاويره مع كلبه المالطي البائس –على حدّ توصيفه– الذي أسماه (مونتي)، فالكلب فيلسوف حقيقي –كما يرى– فهو يُحبّ التعلّم، وحبّ التعلّم هو حبّ الحكمة. ويُقدّم لنا المؤلف بين طيّات محاوراته وتنقّلاته ونزهاته اليوميّة مع كلبه (مونتي) خلاصات فلسفيّة بهذه الطريقة المُتخيّلة في سعي منه لتحبيب الفلسفة للقارئ، بعد أن ابتعد إنسان العصر الحديث عن الفلسفة، فأصر (أنطوني ماكغاوان) على ابتكار أسلوب جديد لعرض الفكر الفلسفي بطريقة تُخفّف من جفافه، وقد اختار الكلب بطلاً مرافقاً له في رحلته هذه استناداً إلى خلفيات تاريخيّة ترسم صورة العلاقة بين الكلب والفلاسفة، فقد كان الكلب –عبر التاريخ– أفضل صديق للإنسان في الكلاسيكيّات الفلسفيّة، حتى أن مذهباً اكتسب هُويّته الاسميّة منه وهو (مذهب الكلبيين)، وهم الفلاسفة الساخرون الذين أظهروا ميلاً لعدم الإيمان بصدق الدوافع، واعتادوا على التعبير عن عدم إيمانهم هذا بالسخرية. ناقش المؤلف مع كلبه كثيراً من أسئلة الفلسفة الملغّمة بالإشكالات الديلاكتيكية: فناقش نظريات أفلاطون وأرسطو الأخلاقية، والفلسفات القديمة التي تُركّز على فكرة السعادة، كما ناقش فلسفة كانط الأخلاقية التي حاولت العثور على قوانين عالمية للسلوك، ثم انتقلا –هو وكلبه– إلى مناقشة السؤال عن العقول الأخرى، ثم ناقشا مشكلة الإرادة الحرّة، بعدها انتقل إلى أن يُقدّم لكلبه شرحاً عاماً عن الحجج العقلانية المعروفة باسم (القياس المنطقي)، ثم تحدثا في مشاوير لهما عن الميتافيزيقا، وشمل الحوار تلك الأسئلة التي تتعامل مع الطبيعة الأساسية للواقع، وناقشا في مشوار ميتافيزيقي جديد (مشكلة الكُليّات)، ثم تحدّثا عن (الأبستمولوجيا/ نظرية المعرفة)... وهكذا عالجا في مشاويرهما وحواراتهما أعمق الأسئلة المعرفية إشكاليةً، بأسلوب شيّق ولغة بسيطة، يسهل فهمها حتى بالنسبة لغير المختص بالفلسفة أو المعني بها. «القبيلة والقبائليّة أو هُويّات ما بعد الحداثة» عبدالله الغذامي يُعرِّي هذا الكتاب نسقاً مستفحلاً فينا نحن العرب، أسماه الكتاب (القبائليّة)، ويسعى في معظم مساراته وحفرياته الثقافيّة أن يُنتج قناعةً راسخةً تعمل على التمييز بين (القبيلة) و(القبائليّة) بوصف الأولى قيمةً اجتماعيةً وثقافيةً، نشأت لضرورة معاشية وبيئيّة، فرضتها الحاجة الغريزية، وبوصف الأخرى مفهوماً انحيازيّاً عرقيّاً يقوم على الإقصاء والتمييز؛ لذا فالقبائليّة مصطلح غير محايد، يأتي بالضدّ من القبيلة التي هي مصطلح فطري محايد. ويسعى الكتاب إلى تقديم فهم ثقافي للقبائلية، ينظر لها على أنها قيمة عنصرية تقوم على كلّ ما هو غير فطري وغير طبيعي، وتتأسّس على ما هو نسقي ثقافي، فهناك –دوماً– مفهومان يتحكّمان في الإنسان هما الأصل والتمايز، فالإنسان مجبول على اختراع رصيد ثقافي له بناءً على ثنائية النسب/ الحسب، ويُسمّيه بالأصل، ويظل يسند نفسه وذاكرته على هذا المفهوم، وقد ابتكر القصائد والحكايات والملاحم؛ لتعزيز هذا البعد الرمزي والتمسّك به، ومعه يأتي مفهوم التمايز، حيث يجنح الإنسان إلى تصوّر خصائصه وسماته الطبيعية والثقافية على أنها أفضليات وليست مجرّد خصائص فطرية. ولا يحدث هذا التمايز –بحسب تصوّر الكتاب– على المستوى الفردي، بل يظهر لدى الأمم والشعوب، كما يظهر لدى الجماعات، ولدى فرق مباريات كرة القدم وجمهورها، وهكذا تسعى الجماعات لتحويل كلّ ما هو فطري طبيعي إلى مشروع ثقافي؛ لإحداث فروق تمييزيّة وصناعة نسقٍ متعالٍ ومنفصل. يُسجّل الكتاب لحظات صعود (الهويات الأصولية) الذي هو عنوان جامع للقبائلية والعرقية، ويرصد عودة الأصوليات عبر صور من الثقافات العالمية، عاداً إيّاها واحدة من الإفرازات الجانبية لمرحلة العولمة ومرحلة ما بعد الحداثة حيث ظهرت الهوامش؛ لتُعبّر عن ذاتها، وصَاحَبَ ذلك ظهورُ صيغ التمايز العالميّة الكبرى كما حدث في ظهور الطائفيات لتكون صيغة للتفريق بدلاً من كونها تحقيقاً للذات، وسؤالاً عن الحقوق المهدورة.