استعرض ما شئت من أسمائنا النقدية والثقافية، مع حفظ اللقب والمقام. جميعهم ليسوا فوق النقد وليسوا تحت النقد، وإنما هم في مركزه وعينه -بؤرته- بمعنى المركز المرموق منه، ولذلك عندما نقرأ لهم ما لا يتفق مع وجهات نظرنا فإننا بحاجة إلى أن نكون أكثر تركيزا، وأن نتعامل مع طرحهم وفق مركزهم في الفضاء النقدي حتى لا نفسر ما يقولون بناء على تصورنا الآني الذي قد يخطىء وقد يصيب، وإنما وفق منظور يستوعب الحقل المعرفي والنسيج الفكري الذي تعمل عليه هذه الأسماء طيلة عقود متصلة، وأن نرتكز على رؤاهم الفلسفية التي كونوها خلال سنوات اشتغالهم بالهم النقدي والبناء المعرفي، ولو أخذنا مثالا حيا على ما نريد قوله فإن مفردة (تفاهة) التي تحدث عنها الغذامي، وما تزال طرية وقابلة للطرق، ولو عرضناها من خلال (نظرية المثل) لوجدنا أنها مفردة لا تنتمي لذلك الواقع الموازي الخالد، فهي في جوهرها مفردة دنيوية قابلة للتشكل وإعادة التدوير حسب كل فهم، وحسب معطيات ذاتية وثقافية واجتماعية وأدبية، وحكمنا على حالة من الحالات بالتفاهة لا يعني أنها بالنسبة لجميعنا كذلك، وهذه المساحة هي التي حرك الغذامي فلسفته في فضائها كما فهمت وللغذامي أن ينفي أو أن يؤكد. التفاهة مصطلح يخضع للفرز ضمن مستويات إذا وضعناها وفق الحالة التي صنفها بها الغذامي (وصم)، والوصم مصطلح أصيل من مصطلاحات علم الاجتماع، وبالتالي هناك ما هو دون التفاهة وما هو أعلى بمفهومنا التداولي، فاتفاق المفردة لا يعني اتفاق مستوى الدلالة وطبيعة التلقي، ولذلك سنستخدم (منهج الاستقراء) حتى تكون قراءتنا وفق مستوى من مستويات (النقد الثقافي) الذي يُبنى على منهج ونظرية يمكن من خلالهما وباستخدام نمط تفكير يتفق مع شخصية الكاتب أو المتحدث؛ إصدار رأي، وما أراه مناسبا هنا هو المستوى التحليلي والتركيبي، فالغذامي أطلق المصطلح الذي يقف عند مستوى محدد، ولا يتعداه، وهو المستوى الذي يخضع لذائقة المتلقي ولا يخضع للحكم الأدبي والحكم الاجتماعي. من هنا فإن «التفاهة» التي نتصور أن الغذامي هادنها ليست تلك التفاهة التي تمس بقيمة المحتوى، وتتعدى على ذائقة الناس وتحبط تطلعاتهم، ولذلك نحن بحاجة إلى أن يُفسر لنا منتقدي الغذامي؛ المعنى الذي ارتسم في مخيلتهم عندما طُرحت كلمة تفاهة! التفاهة حالة مستنكرة إذا أريد بها ذلك الخروج المبتذل من خلال منصات التواصل، والذي يمس قيم المجتمع ودرجة تطلعاته الجمالية، وهنا نجد أن المؤسسات المعنية تتعامل مع هذا الأمر بجدية وبشكل متواصل لتنحيته عن طريق المجتمع، وكل ما قلته ليس دفاعا عن أحد، وإنما محاولة لتوضيح أن كل طرح يمكن أن يفهم بأشكال فهم مختلفة، وعليه فإن الجزم بأن تصورنا للأشياء هو التصور الوحيد والمنزه عن الخطأ لا يضيف إلى ساحتنا الثقافية النقدية، ويجعلنا في حالة ارتياب دائم وتشنج عند مناقشتنا فيما نتكلم عنه أو نكتبه، وقد طرحت في عدة مقالات آراء اختلفت في مضمونها مع رأي والدنا وأستاذنا المفكر السعودي الكبير الدكتور عبدالله الغذامي، ومنها ما كتبته على صفحات جريدة الرياض تحت مسمى: موت النقد الثقافي، والنقد الثقافي الميت الحي! ومن هنا فإن من الطبيعي أن نختلف مع رأي أي اسم من الأسماء الواردة في مطلع المقال، ولكن حضورهم وخبراتهم التراكمية وجديتهم الراسخة، واشتغالهم المتواصل على تطوير أدواتهم، والتي جعلت منهم أسماء فارقة في مشهدنا الثقافي؛ يحملنا مسؤولية أن نحاول قدر الإمكان أن نستند في نقدنا لطرحهم على بناء متين مؤسس على قواعد نظرية منهجية وقراءة عميقة لمجمل تصوراتهم في جانبها الفلسفي والمعرفي والعلمي وبنائهم الفكري والنقدي، وأن لا نفسر أي موافقة على طرحهم على أنها مجرد تحيز لتاريخهم.