إن النمو والازدهار لا يأتيان تلقائياً، بل يصنعان بتخطيط منهجي وأدوات واقعية من أهمها: تهيئة البنية التحتية المتكاملة، وعقد الشراكات الإستراتيجية، وتوظيف التقنيات الحديثة، وتعزيز ثقافة الاستثمار الذكي القائم على الدراسة والتحليل واتخاذ القرارات بعقلانية ومنهجية وليس بالعاطفة أو التوقعات العشوائية. وكل هذه الأدوات أصبحت اليوم متوفرة في المملكة التي تسعى لتكون المفتاح الإقليمي والعالمي للنمو والازدهار، لذلك يمثل منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار الذي انعقد الأسبوع الماضي في الرياض إحدى أهم المنصات العالمية لصياغة أجندات الاستثمار والتقنية والتمويل المستدام، اجتمع فيه صناع القرار وقادة رأس المال وصناديق الثروة السيادية لتوجيه التدفقات نحو قطاعات المستقبل؛ بما يعزز تموضع المملكة كمركز إقليمي ودولي للحوار الاستثماري وصناعة الصفقات، ضمن رؤية مؤسسية لبناء روابط بين «العقول» و»رأس المال». تتجلى أهمية المنتدى في اتساقه الكامل مع مستهدفات الإستراتيجية الوطنية للاستثمار التي تهدف لرفع جودة وحجم الاستثمارات ودور القطاع الخاص محلياً ودولياً، عبر تهيئة بيئة تمكينية في التشريعات، وتوجيه رأس المال نحو القطاعات الواعدة مثل الطاقة الخضراء والتقنية والرعاية الصحية والبنية الرقمية والسياحة. كما يشكل المنتدى فرصة حقيقية للقطاع الخاص؛ لأنه منصة للصفقات وبناء الشبكات مع مستثمرين مؤسسيين وصناديق تقاعد وشركات صناعية كبرى، ويوفر كل ما هو جديد حول التحولات التكنولوجية والتنظيمية في الأسواق المستهدفة، بما يعين الشركات على اختيار النماذج التشغيلية الأنسب، كما أن حضور الجهات الحكومية المعنية «الاستثمار والتجارة والصناعة والنقل والطاقة» يسهل مواءمة الحوافز وتخفيض تكاليف المعاملات العابرة للحدود، وهو ما تعكسه أجندة الإستراتيجية الوطنية للاستثمار. ويعطي هذا المؤتمر مفتاح الازدهار للمستثمر السعودي؛ من خلال فرص استثمارية جديدة والدخول في شراكات إستراتيجية، وفتح أسواق خارجية أو ربط المشروعات المحلية بسلسلة قيمة عالمية، كما أن المشاركة في مثل هذا الحدث العالمي تضيف إلى سمعة المستثمر السعودي بأن لديه رؤية ونشاطاً مما يفتح له الباب لمزيد من فرص التوسع الخارجي والشراكات أو البرامج الاستثمارية داخل المملكة وخارجها. إن منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار يمثل رافعة عملية لتسريع اندماج الشركات السعودية -وبخاصة القطاع الخاص- في الاقتصاد العالمي عبر صفقات نوعية، وشراكات مبتكرة، وتمويلات مستدامة؛ مما يحسن زخم التدفقات وتنامي الحضور المؤسسي، لكن تعظيم أثر الاستثمار الخارجي يتطلب اختياراً علمياً للأسواق، وهياكل دخول متدرجة، وتمويلاً مخصصاً لتلبية احتياجات الاستثمار الخارجي، وحوكمة راسخة، واستفادة ممنهجة من أدوات الدولة التمكينية. ولكي ينجح المستثمر السعودي في تطوير أعماله وتعزيز نمو صناعته، من الضروري أن يستند قراره الاستثماري إلى أسس كمية ومنهجية واضحة، من خلال تبنّي مصفوفة تحليل تجمع بين حجم الطلب المتوقع، ومخاطر السيادة، وسهولة ممارسة الأعمال، وعمق سلاسل التوريد، وتوافر الكفاءات البشرية. وينبغي أن تعتمد هذه المصفوفة على بيانات رسمية دقيقة تصدر عن الجهات الإحصائية المحلية، وعلى معلومات موثوقة من شركاء الائتمان والمؤسسات الاقتصادية الدولية. كما يُستحسن أن تُوجَّه الاستثمارات الخارجية نحو القطاعات التي تُكمّل السلاسل الإنتاجية المحلية، سواء عبر توريد المدخلات الصناعية، أو من خلال عقود التصنيع الخارجي، أو إنشاء مراكز التصميم والتطوير؛ بما يرفع المحتوى المحلي، ويعزز تنافسية الاقتصاد الوطني، ويقوي القاعدة الصناعية السعودية عبر نقل التقنية وتوطين المعرفة والمهارات. وفي هذا الإطار، أتمنى على الحكومة أن تضطلع بدور تمكيني فاعل من خلال توفير قواعد بيانات اقتصادية مفتوحة ومحدثة تدعم اتخاذ القرار الاستثماري، وتسهل الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالأسواق الخارجية، فضلاً عن تعزيز التعاون بين الجهات التمويلية وهيئات التجارة الخارجية لتمكين المستثمرين من التوسع الآمن والمدروس. كما أتمنى دعم المستثمرين ببرامج استشارية متخصصة في تحليل الأسواق، وتقديم حوافز موجهة للاستثمارات التي تسهم في تكامل السلاسل المحلية ورفع القيمة المضافة الوطنية. أخيراً، أشكر حكومتنا الرشيدة على جهودها الكبيرة في تنظيم منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، الذي أصبح اليوم إحدى أبرز المنصات العالمية في رسم ملامح الاقتصاد الحديث، ويمثل محركاً رئيساً لتنويع مصادر الدخل الوطني، وجذب الاستثمارات النوعية، ونقل التقنية والمعرفة إلى الداخل، كما يجسد رؤية المملكة 2030 في بناء اقتصاد قائم على الابتكار والشراكة والاستثمار. لقد أثبتت المملكة من خلال هذه المبادرة حرصها على تعزيز مكانتها كمركز اقتصادي واستثماري عالمي، يربط الشرق بالغرب، ويساهم في تشكيل مستقبل أكثر استدامة وازدهاراً للبشرية جمعاء، وتكون الرياض بحق «مفتاح الازدهار».