يقدم التراث الموازي خيارات متعددة للتمسك بالجذور ومقاومة ظاهرة اللا مكان، لكنه في الوقت نفسه لا يتصادم مع السيولة الثقافية التي تفرضها العولمة.. النواة الإبداعية مرجع آمن للجذور التي تستقر في هذه النواة؛ لكن التراث الموازي يدعو لدراسة الحالة الفكرية والثقافية بشكل مستمر حتى لا يكون الانزياح نحو الحداثة المفرطة حادًا ويصعب بعد ذلك إصلاحه.. في كتابه المهم "اللا أمكنة: مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة" يربط "مارك أوجيه" ظاهرة العبور الدائم التي يعيشها البشر هذه الايام بتلاشي المكان أو الإحساس به، الأمر الذي يجعل الانتماء على المحك، إذ يبدو أن الانتماء لدى البشر يتطور مع وجود الرابطة المكانية، ويعزي هذه الظاهرة إلى "الحداثة المفرطة"، فالبشرية تمر بحالة تسارع وتقارب للأحداث وفرط في المعلومات يجعل من الصعوبة بمكان استيعاب ما يجري حولنا خصوصا مع تصاعد إحساسنا بفقد الرابطة المكانية وتحولنا إلى كائنات معولمة تنتمي إلى عوالم افتراضية وشبه افتراضية تجعل من تطور ثقافة مستقرة أمرا مستحيلا. يمكن أن نرى الحداثة المفرطة كظاهرة تصنع اللا انتماء كما هي ظاهرة تخلق ما بات يعرف بالمكان الواحد أو اللا مكان، فكلا المفهومين يؤديان في نهاية الأمر إلى تفتت الهوية أو "الهوية السائلة" على رأي "زيجمونت باومن" الذي تناول في مجموعة كتب نشرها حول الظواهر السائلة التي بتنا نعيشها فالثقافة والهوية وغيرها أصبحت ظواهر سائلة لا يمكن الركون إليها لصناعة انتماء لدى البشر. إذا ما الحل لمواجهة هذا الإفراط في السيولة الثقافية التي صنعته وستصنعه الحداثة المفرطة؟ سوف أعود لأحد مبادئ التراث الموازي الخمسة وهو "الثبات المؤقت" أي أن الواقع الذي نعيشه اليوم غير مستقر وهو في حالة تغيير دائم وستزداد حدة التغير والسيولة مع الوقت نتيجة للتطور التقني المعولم الذي يعمل على تفتتت الذاكرة المحلية وتحويلها إلى ذاكرة الثقافة الواحدة والمكان الواحد. ومع ذلك فإن التراث الموازي يفرق بين عدم ثبات الظواهر وبين وجود نواة إبداعية ثابتة يصعب اختراقها وتفكيكها كليا لكن يمكن أن تتأثر وتضعف نتيجة لما تعيشه البشرية. فكل مجموعة بشرية تمثل نواتها الإبداعية وبالقدر الذي تجعل من هذه النواة ميزانا للتعامل مع الحداثة المفرطة وظاهرة اللا مكان التي يعيشها البشر في الوقت الراهن كلما كان هناك إمكانية لمواجهة ظاهرة اللا انتماء التي قد تقوض كل هياكل المجتمعات التقليدية التي نعرفها. لكن المسألة ليست بهذه البساطة فلا يعني وجود نواة إبداعية ثابتة أو شبه ثابتةً أنها تستطيع مواجهة الحداثة المفرطة وتبعاتها فالأمر يعتمد على قدرة النواة على المقاومة والاستيعاب. يقدم التراث الموازي خيارات متعددة للتمسك بالجذور ومقاومة ظاهرة اللا مكان، لكنه في الوقت نفسه لا يتصادم مع السيولة الثقافية التي تفرضها العولمة.. النواة الإبداعية مرجع آمن للجذور التي تستقر في هذه النواة لكن التراث الموازي يدعو إلى دراسة الحالة الفكرية والثقافية paradigm بشكل مستمر حتى لا يكون الانزياح نحو الحداثة المفرطة حادا ويصعب بعد ذلك إصلاحه. لكن مراقبة "البرادايم" والتحولات التي تحدث فيه ليس بالأمر الهين فحتى تواكب الحياة اليومية تحتاج أن يكون هناك مجموعة من مراكز الرصد التي تقيس تحولات العقل وصوره الذهنية التي بات الكثير منها في عداد الماضي ولا يزال الكثير منا متشبثا بها لأنه يعتقد واهما أنها مازالت فعالة في المجتمع. مراكز الرصد هذه يجب أن تكون مؤهلة بكوادر ذات تجربة اثنوجرافية عميقة، كون الحداثة المفرطة وتبعاتها اللا انتمائية هي ظواهر انثروبولوجية تحتاج إلى رصد هادئ وخلق شبكة من المكونات الثقافية التي في طور الاضمحلال وتلك التي في طور النشوء وبالطبع تلك المستقرة والمقاومة والفعالة. أحد الإشكالات المهمة التي يواجهها التراث الموازي هي أنه تراث ينفصل عن الماضي ويحث على التفكير في المستقبل، وهذا يراه البعض أنه يعزز من نفوذ الحداثة المفرطة ويلغي التجربة التاريخية، المكانية على وجه الخصوص، ويقوض من فرص التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. يفكر البعض أن مقاومة ظاهرة اللا مكان يمكن تحقيقها من خلال التشبث بعباءة التاريخ المستقرة في الأذهان، وهذا الأمر يعني بالنسبة لهم أنه لا يمكن خلق حاضر مستقر دون العودة إلى التاريخ، فالهوية تتحقق من خلال ابتكار هوية تتماشى مع الهوية التاريخية والأمكنة هي ذوات لها أرواح وكلما استعنت بالصور التاريخية للأمكنة كلما كانت مستقرة. التراث الموازي لا يرى التوجه صائبا، بل هو نوع من التزييف والمسكن المؤقت الذي سرعان ما سينكشف ويكون الوضع اسوأ. فكرة الانقطاع عن التاريخ لا تعني الانقطاع عن النواة الإبداعية، فكيف نستطيع أن نخلق صلات بين النواة وبين الحداثة المفرطة المتغيرة ذات الزخم اللا مكاني؟ يناقش "أوجيه" تداعي الهياكل الجماعية وصعود الفردانية وينسب الأمكنة إلى الفرد لا الجماعة، أي أن الكائن البشري في وقتنا الراهن أصبحت انتماءاته المكانية فردية وربما لا يوجد شيء مشترك يجمعه مع الآخر على مستوى الانتماء المكاني. هذا يجعل من مفاهيم مثل الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية تواجه تحديات كبيرة. الإشكالية من وجهة نظرنا أنها تحديات لا يمكن تفاديها، فجميع محاولات الالتفاف عليها التي نشاهدها هذه الأيام لن تجدي نفعا.. نعتقد أنه من الضرورة بمكان إعادة التفكير في التراث الموازي كآلية تحاول أن تستوعب ظاهرة اللا مكان لكنها لا ترسخها، بل تخلق حلولا واقعية لها.