لقد كسرت الرياض قواعد المد الحداثي، فهي لم ترد أن تحبس نفسها داخله، وقدمت مشروعها الفكري المحلي عبر تجارب عميقة وظفت فيها مبادئ عمرانية تعتمد بشكل مباشر على الأمكنة والصور التاريخية التي لا تزال راسخة في أذهان الناس وتقبلوا استبدالها في فترة سابقة، لكنها كانت مرحلة مدّ عمراني كانت تحتاجه المدينة.. تتحدى بعض المدن صيرورتها التاريخية وتتجاوز بهذا التحدي الانحرافات التي قد تصنعها ظروف العصر وتحولاته وتجعل من تلك الانحرافات فرصا جديدة تختزن الكثير من الأفكار التي تجعل من المدينة حالة عمرانية لافتة ومتجددة. إنه تحد يتطلب الغوص عميقا في البنية الثقافية التي خلقت عمران المدينة تاريخيا والعمل على اكتشافها وتقديمها بطريقة مغايرة لما كانت عليه في الماضي. إنها محاولة للإبحار في التاريخ، كما أنها مغامرة لصناعة المستقبل، فبين التاريخ والمستقبل خيط رفيع يصنعه الحاضر بتجاربه ووعيه الممتد بامتداد الثقافة الحاضرة نفسها. هذه الخطوات نحو المجهول، هي في الحقيقة خطوات نحو الإبداع والابتكار الذي يجب ألا يحده تصور مسبق لكنه يجب أن يكون متشبثا بما يشبه الجذور التي تعود إليها المدينة في كل مغامرة لتتزود منها لسلوك طرق وعرة جديدة. العمارة بكل ما تحتويه من شبكات ثقافية وتقنية وفلسفية تحمل في نواتها الجوهرية روح المغامرة التي تتوق لها كل مدينة لترسم قدرها المستقبلي وتحدد ملامحها التي سيتذكرها بها الناس. أنها رحلة لا مفرّ منها لصناعة طبقة راسخة في الذهن في فترة زمنية ما، لتجعل من المدينة مجموعة رحلات زمنية تترسخ فيها العمارة على شكل طبقات لا يمكن التراجع عنها. الولوج إلى رحلات أي مدينة وتتبع طرقها يكشف أسرارها التي تخبئها ولا تظهرها بسهولة لأحد، لكن هذا التتبع لا يجعلنا نفهمها بشكل كامل، فأسرارها أعمق بكثير من كشفها لمجرد جرّ خطوتنا على نفس الطرق التي سارت فيها المدينة. ما نحاول أن نستحضره هنا هو رحلة مدينة الرياض نحو الحداثة بكل منعطفاتها وأسرارها، لكننا نعلم أننا لن نستطيع أن نستحضر تلك الرحلة بشكل كامل. في تلك الرحلة كان الشدّ بين تلك الأشكال والصور التي تصنع الثقافة وبين تلك التي تصنعها الثقافة، بين الصور المقاومة للفناء وبين تلك العابرة التي تأتي وتعبر وتتلاشى من الأذهان. وبين هذا وذاك تتموضع هوية المدينة تارة أمام عيون الناس لتخاطبهم بوضوح وتارة أخرى تغيب وكأن الهوية غيمة عبرت سماء المدينة فأمطرت لبضع الوقت ثم تلاشت. الأشكال الصانعة للثقافة مقاومة بطبعها لكنها معرضة لهجوم الأشكال المبهرة التي صارت تصنعها الثقافة المعاصرة وتقنياتها التي لا حدود لها. عندما خلقت الرياض حداثتها صارت تبحث عن مكان آخر غير ذلك المكان الذي صنعته الحداثة وعن عمارة أخرى تستعيد بها روحها وألقها، فحاولت أن تستكشف الحلول وتجربها بجرأة مدهشة. لم يعنِ المكان الآخر هروبا من زحام العمران المتراكم عبر السنين فحسب، بل كان يعني هروبا إلى فسحة جديدة نحو المستقبل، وتجديدا لمفاهيم العمران التي تراخت عبر السنين وصارت لا تقدم حلولا لمعضلات معاصرة. الرياض كانت تبحث عن روحها وعن شخصيتها عبر هذا المكان المختلف مثل كل مدينة تمر بمنعطفات تاريخية حادة، وكانت تسعى من خلال ذلك البحث إلى التوازن. غالبا ما تكمن الأمكنة الأخرى في النواة الجوهرية المستترة عن الأنظار وكأن البحث عن تلك النواة والكشف عنها حالة من الثوران الفكري على زحام العمران الذي كان يقيّد المدينة ويدفع بها نحو التكرار والملل. كان من الضروري أن يخلق المكان الآخر حالة من المقاومة العمرانية والبصرية تستوعب الجديد دون أن تفقد المدينة روح المكان وتماسكه، وكان يفترض أن تحقق هذه المقاومة القدرة على التعبير عن روح المكان وربطه بجذوره التاريخية. خلق مثل هذه المعادلة الصعبة كان يتطلب بناء مختبرا فكريا ومهنيا يوازي تلك الصعوبة التي واجهتها الرياض، فقد كانت رحلة تحد متشابكة الاتجاهات، ونجحت في تجاوز تلك الرحلة. لقد ملّ الخطاب المعماري العالمي، في نهاية السبعينات من القرن الماضي، من الاستعراض العمراني غير المبرر وكان يبحث عن ملجأ يحقق "الوداعة البصرية المألوفة" ويسعى إلى استعادة الأمكنة الإنسانية التي تتيح للبشر الحركة والمشاهدة الهادئة، ويبدو أن الرياض فهمت ذلك التوجه بعمق وعبرت عنه من خلال العودة إلى تاريخها العمراني المتراكم وقدمته بأسلوب متدرج لافت للأنظار. فالمدينة كانت تنتظر حياة جديدة للأشكال التي صنعت ثقافتها فهي تعرف أن تلك الأشكال مقاومة للفناء وسيأتي عليها حين تنهض من سباتها مرة أخرى. لقد كسرت الرياض قواعد المد الحداثي، فهي لم ترد أن تحبس نفسها داخله، وقدمت مشروعها الفكري المحلي عبر تجارب عميقة وظفت فيها مبادئ عمرانية تعتمد بشكل مباشر على الأمكنة والصور التاريخية التي لا تزال راسخة في أذهان الناس وتقبلوا استبدالها في فترة سابقة، لكنها كانت مرحلة مدّ عمراني كانت تحتاجه المدينة. لقد خلقت جدلا مختلفا ركّز على التقاليد البصرية والمكانية المرتبطة بجذور نواتها الابداعية، لكنها كانت تقاليد جديدة، مختلفة في بنيتها عن تلك التي تكوّنت تاريخيا. وحتى تستطيع المدينة ابتكار تقاليد جديدة لابد من المرور بمراحل التجديد كلها وبالتدريج، وهذا ما حدث في الرياض التي كانت تختزن التجارب وتحولها إلى دروس مفتوحة للجميع. التقليدية الجديدة التي تبنتها الرياض كانت ولادة جديدة لشخصية المدينة، وولادة مستقبلية لجدل الهوية العمرانية الذي عادة لا ينتهي ويمتد إلى ما وراء العمارة ذاتها. لقد كان هذا التحول خطوة أولى لإعادة فهم المحلية في عمارة الرياض، ولم تتوقف الخطوات بعد ذلك للتحرر من شرك التقليد المباشر، وكان ذلك التحرر يدفع العمران إلى تجاوز النهايات المغلقة التي تفرضها التقاليد الجديدة والبحث عن نهايات مفتوحة، وربما تقاليد جديدة تناسب تلك النهايات التي لا تريد أن تكرر نفسها. لقد كانت "طفرة" فكرية تجاوزت بها الرياض السكون الذي يعتري بعض المدن ويجعلها قابعة في ثيابها المتحجرة، وجعلتها تتحرك نحو المستقبل بثقة وجرأة، فالتجارب التي صنعت شخصية العمران المعاصر للمدينة قلما يتكرر في مدينة أخرى. لقد كان خطابها مع الأشكال والصور عميقا ومؤثرا ولا يزال حتى اليوم.