الرياض وهي تخطو خطواتها الأولى نحو الحداثة كانت متعلقة بحبلها السرّي الذي كان خلق وجودها، لكنه مثل أي حبل سرّي لابد أن ينقطع ليطلق المدينة إلى حياة جديدة. تتوق المدن إلى أن تلبس ثوبا جديدا، لكن بحذر... تقسوا المدن أحيانا على نفسها وتاريخها وسكانها عندما تحاول أن تبدل جلدها. لكنها أحيانا لا تستطيع إلا أن تفعل ذلك فهي لا تملك خيارا آخر في زمن بدلت جميع المدن جلودها القديمة واختارت الحياة المعاصرة. تبدو الرياض كمدينة تراقب العالم عن كثب وتخطو خطوات واسعة، هادئة أحيانا وأحيانا متسارعة. متجاوزة كل ما يربطها بالماضي لكنها سرعان ما تصحوا لتعود إلى توازنها الذي تريد أن تكون عليه. عندما تضطر أي مدينة أن تعيش بيت عالمين، عالم ارتبطت به لقرون وشكل ذاكرتها، وعالم تحتاج أن ترتبط به في زمنها الذي تعيش فيه الآن ولا تملك إلا أن تتصادم معه، تصبح تقاليدها التي طالما شكلت ثقافتها في حالة حركة دائمة تتجه للأمام دائما لكن تلك التقاليد تصحو أحيانا وتتوق للرجوع إلى الوراء. قبيل خمسينات القرن الماضي تنبهت الرياض من الحلم الذي كانت تعيشه لقرون، الحلم الذي خلق هدوءها وسكينتها وربط سكانها برباط وثيق.. وهي تصحو من هذا الحلم الجميل كانت تفيق على واقع جديد، قد يكون أقرب إلى المجهول الذي عادة ما تمر به وتجربه المدن التي قُدّر لها أن تصنع التاريخ وتكون أحد اللاعبين في تحديد المستقبل.. الحلم الدافئ الذي كانت تقدمه المدينة العتيقة لم يعد حلما مقبولا بعد أن خطت المدينة أول خطواتها نحو الحداثة.. تلك الخطوات التي يبدو أنها دون نهاية.. تتوجه دائما نحو الأمام مع بعض الالتفاتات أحيانا إلى الماضي الذي لا يزال يشكل حنينا عميقا مُرتسم في العقل والقلب.. التفاتات يحتاجها الشعور بالارتباط والانتماء، لكنها التفاتات لا تحدث إلا عندما تسنح الفرص أو يطلبها المستقبل ذاته كي يكون مستقبلا مستقرا ومتوازنا. الخروج من عباءة الماضي أمر مستحيل، لكن هذا الماضي كان قد بدأ أول خطوات تراجعه وصار يذبل ويتحداه الزمن، كان يتراجع كلما ضغط عليه المستقبل حتى يستحيل إلى خيال كامن في نفوس الناس. تستحيل المدينة بعد ذلك إلى سلسلة من الذكريات، كلما ابتعد بها الزمن تصاعد الحنين إلى تلك البلدة الوادعة التي لم تعد موجودة إلا في الدفاتر القديمة يتأملها البعض كصور باهتة يحنّون إليها لكنها مثل كل شيء يذهب ولا يعود. الرياض وهي تخطو خطواتها الأولى نحو الحداثة كانت متعلقة بحبلها السرّي الذي كان خلق وجودها، لكنه مثل أي حبل سرّي لابد أن ينقطع ليطلق المدينة إلى حياة جديدة. تتوق المدن إلى أن تلبس ثوبا جديدا، لكن بحذر، فهي لا تُبدل رداءها هكذا دون سبب، لابد أن يكون هناك شيء يكمن خلف الستار يدفعها إلى أن تُصبح مدينة أخرى، هذا ما يجعل المدن الكبيرة مليئة بالأسرار، تختزن طبقات من الحكايات التي لم يقلها أحد لكنها كتبت على طرقات المدينة وساحتها التي نشأت من العدم لتترك وراءها المدينة العتيقة ليغلفها النسيان وتتلاشى بصمت حزين. حكايات المدينة التي ارتقت سلم الحداثة بجرأة غير معهودة، فقد كان هذا قدرها وهي تتحول إلى عاصمة لدولة كبيرة، وهي تقدم نفسها بجرأة لتكون مركزا لصناعة الطاقة في العالم، وهي تمثل بلدا يتجه له ملايين البشر كل يوم في صلواتهم. قصة الحداثة في الرياض لم تكن فقط شوارع وساحات فسيحة ومبان أسمنتية، إنها قصة مجتمع أراد أن يقفز وراء جدران التاريخ ليدخل العالم المعاصر، وإرادة سياسية كانت عازمة على صناعة مدينة تخاطب العالم باللغة التي يفهمها. لم يعد المجال مفتوحا أن تبقى الرياض على ما كانت عليه، حتى لو أراد سكانها ذلك، فلغة العمران وأدواته تغيرت، وكان على عمارة الرياض أن تتحدث تلك اللغة. لم تكن الحداثة في الرياض لمجرد الحداثة، وإن كان التوق إلى التغير ظهر جليا مع تذوّق المجتمع للجديد، لكن كانت الرسائل الكامنة والعميقة التي بعثت بها حداثة الرياض الحذرة تؤكد أن التغيير كان اختيارا وليس إجبارا، وأن الدخول في العالم الجديد كان هدفا وليس مصيرا محتوما. الحداثة المطلوبة كانت تولد من رحم تجربة عميقة لإعادة اكتشاف ما قدمه التاريخ من نظم منسجمة ومترابطة قامت بدورها على أكمل وجه، لكنها لم تعد قادرة على الاستمرار. الحداثة باقتناع، بعد استنفاد كل طاقة التجربة التاريخية، أو هكذا بدأت قبيل الولوج إلى النصف الثاني من القرن الماضي. قبل ذلك التاريخ كانت الحداثة تطل برأسها الخجول دون أن تدخل بجسدها، حتى أصبح الأمر ممكنا وحصلت على الأذن الذي جعلها تقتحم الرياض وتغمرها بروح جديدة وتلبسها لباسا جديدا. الرياض لم تفتح الباب كليا للحداثة، بل تركته مواربا لأكثر من ربع قرن، كانت تتحاور خلاله مع القادم الجديد بهدوء دون أن تفتح له الباب بشكل كامل حتى وصلت إلى قناعة أنه قد آن الأوان لإعطائه الأذن أن يكون هو العالم الذي يجب أن تدخل فيه المدينة، فلم يعد الحذر مجديا. لقد كان ذلك الفصل من حكاية الرياض مليئا بالتقلبات والتحولات السريعة لكنه كذلك مليء بالأحلام الواسعة والكبيرة. عندما نمد عيوننا للوراء ونحاول أن نستوعب ما حدث في تلك الأيام وكيف تبدل العمران بتلك السرعة وكيف حاول الناس أن يصنعوا تقاليد جديدة تمكنهم من مسايرة العمران الجديد نشعر أن المدن غالبا ما تعيش أكثر من حياة متوازية في آن واحد.