حداثة الرياض لها شاعريتها الخاصة بها، ارتبطت بأحلام كبيرة، كانت تريد لهذه المدينة أن تضاهي مدن العالم التي سبقتها، وكان لها ذلك في بضع سنين. هل لا تزال تلك الشاعرية متوقدة في القلوب، وهل رياض اليوم تحمل الحلم نفسه، أم تبدّلت الأحلام مع تبدّل الأهداف والتطلعات؟.. هل الاصطدام بفكرة جديدة تقود إلى اليقظة أم الارتباك؟ هذا السؤال الغائر في ضمير مدينة الرياض منذ أن كشفت عن نقابها التاريخي وتدثّرت بلباس جديد لم تعتد أن تلبسه ظل متشبثًا بأزقة المدينة وساحاتها، بجدرانها مهما تبدّل شكل الجدران، يُلحّ في طلب الإجابة، لكن كل مرة يظهر شكل جديد للسؤال يجعل من الإجابة صعبة المنال، سؤال يحيلنا الى كيف تصنع المدن هوياتها وتحدد مدى وجودها. الرياض لم تحاول أن تجيب على هذا السؤال إجابة قاطعة بل أبقت نفسها في حوار معه حتى اليوم، الحداثة كانت فكرة، ربما لم تأخذ فرصتها كاملة حتى تظهر مفاتنها فظلت شبه مُحتجبة تظهر مرة وتختفي مرة أخرى، لم تكتمل لتقول إنها مدينة تريد أن تكون حديثة وكفى. كان الزائر التاريخي يطل دائمًا من فتحة ضيقة ليقول أنا ما أزال أتنفس، إنني أسري في عروق المدينة كما يسري الدم في عروق البشر، فلا تحاولوا تغطيتي أو تحاولوا تجاهلي سأظل متشبثاً بالقلوب والعقول، وسأحدد كيف ترى العيون ما يجب أن تراه، وقد أُملي عليها المشاهد التي تحيط بها وحولها، فإن كانت الحداثة المبهرة بهرت العقول لبعض الوقت فأنا باق فيها كل الوقت. الرياض وهي تتجاوز تاريخها الطويل لم تتجاوز تقاليدها المتجذرة فكأن ذلك التجاوز غير مكتمل، إنها مدينة لم تستطع التخلص من تاريخها ولم ترد أن تُكمل حداثتها كما كان يريد لها الآخرون، بل صنعت حداثة خاصة بها لتقول إنها مدينة تريد أن تكون مع العالم لكن بطريقتها الخاصة. كل حداثة هي انتقال من قديم إلى جديد، انتقال من فكرة استنفذت وجودها، ولم تعد صالحة للعصر إلى فكرة مؤقتة ترضي حاجات الناس لفترة محددة. هكذا هي كل الحداثات، إنها سلسلة من الانتقالات للأفكار والأشكال لتصنع سلسلة من الثقافات المؤقتة المتسارعة، هكذا حوّلت العولمة الثابت الطويل إلى شبه ثابت سريع التغير، لتكوّن عوالم وثقافات متوازية. في الرياض، تجاورت الحداثة جنباً إلى جنب مع التقاليد، خلقت ثقافة وعمارة موازية، لكن سرعان ما توارت التقاليد تحت ضربات الأشكال الجديدة الممعنة في تقنيتها، لكنها لم تبتعد كثيرًا، فقد مكثت التقاليد تراقب ما يحدث عن كثب تتحين الفرصة كي تطل مرة أخرى وقد فعلتها أكثر من مرة ولا يزال عالمها الموازي حاضرًا يلفت إلية الأنظار أحايين كثيرة. الرياض كانت تصنع تراثها الموازي، وقد كان تراثًا يدفعها إلى المستقبل باستمرار، وكأن هذا المستقبل بحر يستحيل الوصول إلى شاطئه. مستقبل متلون يتبدل مع تبدل وجوه الناس وكل مرة يحاول أن يستقر فيها تدفعه حداثة جديدة إلى الأمام. ظلال الحداثة الممتد لا ينفك يصنع شكلاً جديدًا لهذه المدينة التي تتمدد حسب ما يتيحه لها ظلال الحداثة، تصنع مدن صغيرة داخلها وحولها، فهي مدينة ولّادة تصنع نسلها من رحم حداثتها غير المكتملة. من يبحث عن الشاعرية في المدينة تجده يحوم حول الأطلال ويضع أذنه على الجدران الطينية علها تشي بشيء عن التاريخ، الذي لن يعود، أو قد تحدثه عن حكايات أناس مروا بذاك الزقاق أو جلسوا عند تلك الدكة. لكن شاعرية المدينة لا ترفض الحداثة، فهي من الزمن الجميل، وكل قديم هو جميل لا نتمنى أن يعود كما هو، لكن نريده حلماً يراودنا كلما ضغطت علينا حداثة اليوم بكل قسوتها. المدينة تحتاج إلى أدوات وليس أحلام، لكن يبقى الحلم هو الخيط الرفيع الذي يقود إلى التغيير، هكذا تصنع المدن أحلامها، فهي تحتاج إلى التغيير الذي يجعل الحياة تدبّ في أوصالها، فكل مدينة راكدة هي خارج التاريخ. حداثة الرياض لها شاعريتها الخاصة بها، ارتبطت بأحلام كبيرة، كانت تريد لهذه المدينة أن تضاهي مدن العالم التي سبقتها، وكان لها ذلك في بضع سنين. هل لا تزال تلك الشاعرية متوقدة في القلوب، وهل رياض اليوم تحمل الحلم نفسه، أم تبدّلت الأحلام مع تبدّل الأهداف والتطلعات؟ هل ساكن الرياض اليوم يذكر تلك الأحلام المتوقدّة التي كانت تسعى بتواضع لصنع مدينة عظيمة؟ هي طبيعة المدن أن تُولد الأحلام وتموت لتولد أحلام أخرى تتفق مع ما يريده الناس في كل عصر، فكم حُلماً مر على الرياض منذ أن قررت تجاوز سكونها وتبدأ حداثتها المبكرة التي جعلتها في حالة حركة دائمة. قدر المدن الكبيرة أن تُبدّل جلدها، كلما كان هذا التبديل ضرورياً، لا يعني هذا أنها لا تحتفظ بمسار ذاكرتها، لكنها كلما ابتعدت عن البدايات ضعفت تلك الذاكرة وتحولت إلى حُلم شاعري يتوق أن يتذكّره الجميع، ضراوة الحداثة وقسوتها التقنية تربك الذاكرة الحالمة للمدينة، لا تجعلها مستقرة في الأذهان، فهي تقفز نحو كل جديد، وتُخلّف وراها كومة من الذكريات غير المكتملة، يبدو أن التاريخ وتقاليده المتشبثة بعاطفة الناس، يلح على ثبات الذاكرة، التي تجعل من الرياض تلك البلدة الوادعة التي غيّرت في يوم مسار التاريخ في الجزيرة العربية، لكن الحداثة ترفض هذا الثبات فقد وُلدت من رحم المستقبل المُتغير الذي لا يهدأ عن تحوّلاته. الرياض هكذا، لها بعض الذاكرة الثابتة التي تخلق شاعريتها المتحولة ولها ذاكرة متحولة تجعلها مدينة يصعب تصوّرها واستيعابها.