حين ينظر الإنسان إلى مسرح الوجود ومحيطه الواسع، فإنه لا يخرج في نظرته عن بعدين، بُعد الوعي المباشر، وكذا بُعد الوعي الشامل، فإذا اقتصرت رؤيتنا على الوعي المباشر، فإن النظر هنا يكون قاصراً في حدود المرئي المجرد، أي أنها تقتصر على معرفة ملامح وأشكال الأشياء فقط، ولا تُثمر عن وعي وإدراك ورؤية لما خلف الأشياء، وعليه يكون عَرَفْ الملمح الظاهر والمعاين في مسرح الحياة برؤية سطحية ومجردة لا تتصل بالبعد الذوقي والقدرة التحليلية والمتصلة بالتأمل الفلسفي للظواهر والأشياء، التي تبدو متضببة على أغلب الناس، وبالتالي هذه النظرة لا تجعله يتوغل فيما هو أبعد، كي تتجلى له رؤية منهجية تنقله من المعرفة الأولية إلى مهارة رؤيوية بأفاق واسعة، تتكشف فيها جوانب مختلفة ونواحي متعددة، لأن المهارة حين تكون رديفة للمعرفة بالضرورة تكون مقرونة بحالة من التخيّل والتصور والفرضيات، وبالتالي يتكّمن الرائي من الخوض في التفرعات التفصيلية ذهنياً والإبحار في الاتجاهين الأفقي والراسي، لتصل به إلى الأبعاد المتوارية أو الغائبة عن الرؤية المجردة، ولكي نوثّق أكثر عن هذا الجانب من خلال طرح مثال على ذلك، لتتضح لنا الرؤية بعيداً عن الإسهاب في التنظير، الأمر الذي قد يوصل الفكرة من أيسر السبل، فالشاعر في بيت واحد يحول الساحة إلى لوحة بصرية مشهدية، تبرز فيها العلاقات المتعددة مع تمرحل في الزمن مما يضعنا في واقع الأحداث مفاهيميا، من خلال بيت واحد في القصيدة، وفي علاقات منسجمة مع بعضها البعض، تتيح لنا بفرصة التزود بالكثير من المعارف التي تفضي إلى اتساع الذاكرة لمساحة من الزمن والتجربة الجمالية، وبدلالات لغوية منبه للأذهان تضعنا في دائرة الضوء، وفي برازخ فردوس المشهد، وفي حقيقة قوة الإبداع التي توظف فيها اللغة ليكون المعنى مستفاد من دلالات وجودية يعبر بها ببعض الكلام ليدلل على كل الكلام كما سيظهر لاحقاً، لأن الكلمة تعبر عن المرئي واللامرئي، وقد تتسع بنا في اللامرئي أكثر من المرئي، يقول الشاعر حسن بن محمد الزهراني بديوانه: (هات البقية) في قصيدته إبحار: ورفعتُ أشرعة الغرام مسافرًا في سحر عينيك الفسيح أُجدّفُ إلى أن قال: إني أحبّك والوفاء سفينتي والشوق مجدافي وهمسك مِعطفُ وبصرف النظر عن حالة الحب والشوق والتلهف في رسم المشهد العاطفي إلا أن هناك إبحار آخر لرسم حالة تأملية تشي بتقارب كلي لثنائية المعرفة والمهارة التي استطاع أن يستدعي بها تعددية مفارقة للواقع المألوف وتبتعد عن كل ما هو سطحي ليسد رغبة ملحة تتجاذب بين المعرفة والمهارة، وباتصال واعٍ نحو الوجود ساق من خلاله خبرة جمالية تجعلنا نشعر بكل القيم الموجودة ونرى الظواهر من منطق النظر الكلي للأشياء، لنبحر بإلهام معرفي بوقع إيقاع نسق هذا الوجود، ومن هنا يتجلى لنا كيف نتعامل بفطنة تذاهنية مع الأشياء، وكيف تحدث علاقة واسعة مع الموجودات، والوصول إلى بنيتها العميقة، من خلال إبداع الخيال ليتشكل لنا ثراء معرفي زاخر بالمشهد، ومن هنا يتزايد حجم مكتسب المهارة ولحظات الإشراق الإلهامي، وكل شي بالضرورة منتظم في نسقه، علينا أن نرقبه بشكل واضح ونداوله باللغة الحية وننقله بطريقة مختلفة فقط ليصل إلينا بلغة معبّرة عن حالة الإبحار وذلك حين تكثّفت علاقة دلالية غير مرئية على حقيقتها، وذاك حين نستشعر الأشياء والموجودات من بعدي ثنائية المعرفة والمهارة فقط. وإلى لقاء.