الأشياء المرئية قد تكون غير مرئية أيضاً. فمثلاً إذا امتطت سيدة حصاناً عبرت به غابة. قد يحدث للوهلة الأولى أن يراها شخص ما من على مسافة، ثم بعد ذلك سيحدث له أن لا يراها... ومع هذا فإن هذا الشخص يعرف حتماً ان السيدة موجودة، تعبر الغابة بين الأشجار على حصانها. وهكذا، في لوحتي"كارت بلانش، هناك هذه السيدة راكبة الحصان التي تلوح للحظة وكأنها تخفي الأشجار وراءها، ثم هنالك للحظات أخرى، الأشجار التي تخفي السيدة وراءها... ومع هذا فإن قوة أفكارنا، ترصد المرئي واللامرئي في الوقت نفسه - وكل ما أفعله أنا هو انني أستخدم الرسم لكي اجعل الافكار مرئية". هذه الفقرة التي يتناول فيها الرسام رينيه ماغريت، لوحته"كارت بلانش"المرسومة في العام 1965، تكاد تكون قادرة على التعبير عن معظم أعماله الفنية. ومن هنا إذا كان الفنان قد خصّ هذه اللوحة بالذات بهذا الشرح الذي شاءه أن ينتقل، في مجال الحديث عن فنه، من الخاص الى العام، بمعنى انه ينطلق من هذه اللوحة للحديث عن فن الرسم لديه وما الذي يريده منه، فما هذا إلا لأنه وجد اللوحة هذه، قادرة على تفسير فنه أكثر من أي عمل آخر أنجزه في حياته. ومع هذا علينا أن نلاحظ أن"كارت بلانش"ليست أشهر أعمال رينيه ماغريت، ولا أفضل هذه الأعمال، ما يضعنا مرة أخرى أمام فكرة أساسية تقول انه اذا كان المبدعون الكبار يخفون سمات فنهم وجوهره، بحيث لا تظهر مطلقاً، في أعمالهم الكبيرة والأساسية، فإنهم في المقابل يحققون أعمالاً أقل شأناً يكشفون فيها أسرار لعبتهم الفنية، موفرين مفاتيح اساسية تساعد لاحقاً على ولوج اعمالهم الكبيرة. وفي هذا المعنى تكاد هذه الأعمال الثانوية - المفسّرة - أن تبدو مدرسية في نهاية الأمر. غير ان من خصوصيات"كارت بلانش"انها تقدم المفاتيح، ولكن من دون أن تبدو مدرسية. * في شكل من الأشكال، اعتبر فن رينيه ماغريت فناً سريالياً، على غرار النظرة الى أعمال حققها زملاء له معاصرون من أمثال بول ديلفو، وايف تانغي. غير ان صفة سريالية من الصعب انطباقها على أعمال ماغريت، حتى وإن كانت لها من الخارج كل السمات التي تميز الفن السريالي. بالأحرى عمل ماغريت رؤيوي، ناهيك بكونه مهندساً بكل دقة، بحيث تبدو كل التفاصيل مدروسة، بصرياً وفكرياً. وفي المجالين يلعب ماغريت لعبة التكامل بين هذين المجالين، وهو بالتحديد الأمر الذي شرحه بوفرة في النص الذي افتتحنا به هذا الكلام... ولكن أيضاً من الكثير من النصوص الأخرى التي كتبها، والتي قد يكون من شأن قراءتها بدقة ان تجعل فن الرجل يبدو فناً مفهومياً، تلوح الفكرة فيه سباقة على البعد البصري، شارحة له، ويلوح البعد البصري مجرد تطبيق لفكرة موضوعة سلفاً. غير ان هذا القول لا يلوح دقيقاً تماماً في حال ماغريت، لأنه لو كان دقيقاً، لما اشعرتنا هذه اللوحات الغريبة والاستثنائية بكل تلك الأحاسيس التي نستشعرها حين نقف أمام واحدة من اللوحات متأملين. إن أهم ما يخامرنا هنا هو ذلك الشعور الذي كان فرويد قد تحدث عنه بصدد تحليله أعمالاً فنية أخرى وأسماه"الغرابة المقلقة". فالحال ان ما قد يبدو في لوحة لماغريت، للوهلة الأولى، لعبة بصرية، سرعان ما يخلف شعوراً بالقلق لدى الناظر الى اللوحة. وأهمية هذا القلق ان اسبابه لا تكون مفهومة في البداية، ثم تظل غير مفهومة حتى النهاية. * في هذه اللوحة - التي قد لا يعني اسمها شيئاً بالنظر الى ما تعبر عنه طالما أن الاسم بالفرنسية"كارت بلانش"يعني حرفياً بطاقة بيضاء، لكنه يعني جوهرياً، حرية مطلقة تعطى لفنان أو لشخص ما لكي يختار أو يتصرف على هواه -، في هذه اللوحة إذاً، لدينا، وكما نرى وكما يقول ماغريت بنفسه، سيدة تركب حصاناً يسير بها بشيء من الهدوء والدعة، داخل غابة، في البداية ليس ثمة ما يقلق، وسمات المرأة في جلستها المستقيمة ونظرتها المسترخية تنم عن هذا. لكن المشكلة تبدأ حين ننعم النظر لنكتشف أن الفنان انما رسم زمنين في وقت واحد - كما اعتاد أن يفعل في معظم لوحاته السابقة - ورسم هذين الزمنين هو الذي جعل المرئي لا مرئياً واللامرئي مرئياً، وذلك انطلاقاً من عناصر لا تحمل في ذاتها، في الأصل، أية غرابة على الاطلاق. حسب الفنان هنا ان يصور المشهد نفسه في زمنين متتاليين، قد لا تفصل بينهما سوى ثانية واحدة، ثم يطابق الرسمين في رسم واحد. وهذا الاحساس الذي تخلفه اللوحة بازدواجية الزمن، معكوساً في بعد بصري يستمد قوته من القدرة على المزاوجة بين ما هو مرئي ولا مرئي بين ثانية وأخرى، هو ما يخلق تلك الغرابة، وتحديداً ذلك القلق الذي يعتري المشاهد، من دون أن يكون في المشهد نفسه ما يدعو الى ذلك القلق. * إذاً، تكمن اللعبة هنا، في هذه المزاوجة بين زمنين، وبين حالين، وبين رؤيتين، تجتمعان في لحظة الابداع، على لوحة واحدة تلتقط ذلك الزمن الأبدي الفاصل بين زمنين لا وجود لهما إلا متفرقين في الأصل. ولحظة ذلك الزمن الأبدي، الذي هو في نهاية الأمر خارج عن الزمن الموضوعي، هي هنا الموضوع الأساس، وليس فقط في هذه اللوحة، بل في فن رينيه ماغريت بصورة عامة... وهو أمر نلاحظه عبر جمع الليل والنهار في مشهد واحد، مثلاً، في لوحة"صالون الله"1948 كما في لوحة"امبراطورة الضوء"التي لم يكملها الفنان إذ رحل في العام 1967، وهي لوحة تستعيد لوحة أخرى له قد يصح اعتبارها من أجمل لوحاته وأغربها وتحمل العنوان نفسه، ورسمت في العام 1954... وهي تمثل مشهداً ليلياً تحت سماء ساطعة النور نهارية. هنا في هذه اللوحة، يحتاج المرء الى ثانية أو ثانيتين قبل أن يدرك الغرابة المقلقة في هذه اللوحة. وهنا أيضاً، يصح أن نشير الى ما كتبه ماغريت عنها:"لقد أعدت انتاج الكثير من المفاهيم في هذه اللوحة، مركزاً بالتحديد على تصوير مشهد ليلي تحت سماء نهارية، حيث ان المشهد المرسوم يقودنا الى التفكير بالليل، بينما تقودنا السماء المضيئة الى التفكير بالنهار. وفي رأيي ان هذا التساوق بين النهار والليل، له تلك القوة التي تفاجئ وتسحر... القوة التي أسميها الشعر". * واضح هنا، من جديد، أن اللعبة أصلاً لا تقوم على أية غرابة: فقط على رسم زمنين في زمن واحد يختصرهما، ومن هنا ما قيل في بعض الأحيان من أن ماغريت انما تمكن من تحقيق فن"تكعيبي"على طريقته، طالما ان التكعيبية بدورها كانت في الاصل اختصار أزمة الرؤية المتعددة في زمن واحد يصبح هو زمن اللوحة... الزمن النهائي الخارج عن الزمن والموضوعي بدوره. * ورينيه ماغريت 1891 - 1967 بلجيكي ولد في ليسين، وأقام معظم سنواته في بروكسيل التي سيموت فيها. وهو درس الفن التشكيلي باكراً ثم تعرف الى الكثير من الفنانين من متابعي التيارات الحديثة"التكوينية"ثم"التجريدية". وهو بدأ نشاطه برسم لوحات تجريدية هندسية، في الوقت الذي امتهن فيه فن رسم الملصقات. أما عمله الحقيقي كرسام من نوعية خاصة، فبدأ في العام 1924 حين اكتشف لوحة لدي كيريك ففتنته ووجهته ناحية اسلوب سيبدو قريباً جداً من أسلوب السرياليين الباريسيين الذي سيدخل في علاقة معهم ولا سيما مع ايلوار وبريتون حين سيعيش في فرنسا لفترة من الزمن لاحقاً... غير ان سرياليته ظلت دائماً خاصة، ومفهومية. وهو عاد في العام 1930، ليعيش في بروكسيل ويرسم فيها أهم اعماله، معرفاً في الوقت نفسه مواطنيه بفن سريالي، لن يعتبر هو على أية حال من اقطابه أبداً.