لكي يتداعى الكاتب مع لحظة إبداعه ليعتمد التعبير الدقيق أثناء الكتابة، عليه أن يغتنم فيض اللحظة وتفتقات الذهن وقوة الشعور تجاه أي موضوع مختار، وعليه أيضاً أن يفارق الصورة المشهدية المباشرة إلى حالة من الخيال الواسع الذي يجنح به نحو مفاهيم فلسفية واسعة وواعية تمنحه القدرة على إقامة علاقة اشتباه فلسفي عميق لكشف البنية العميقة للأشياء والموجودات، وكذا العودة إلى جوهرها مع بعد النظر وتقليب المراحل المختلفة التي تودي بالكاتب إلى حالة من النورانية لعرفانية الكتابة، وهذا ما يمكنه من نسق توصيفي وامض، ولتكون الكتابة في مؤداها النهائي نشاط إبداعي أدبي يستحق أن يتداول ويقرأ، كآن يرى الغصن اليابس وهو يميس ويهتز ويتمايل مع ارتواء وامتلاء ونظارة وتطوف به أسراب من الفراش وجموع من اليعاسيب وهنا قد زاد حيز الرؤية وتكثف المشهد بدلالة مفارقة لواقعه، الأمر الذي ينقلنا إلى ملمح آخر آسر أخاذ ليس له نهاية أو حدود، لان الاستمرار على ملامح اليباس أو حالات الضمور الشاحبة فقط، تعكس تصوراً باهتاً قد يفشل في توظيفه في سياق أدبي رائع وجميل ومعبر ولا يرقى إلى ذوق المتلقي، ولكون النظر القاصر لا يحقق إلا معاني مدركة ومجردة من أي ملامح موحية بالجمال، فشيئية الشيء تظل ساكنة ورتبة وبالضرورة أن نحركها بشيء من اللغة وتوظيفها من خلال استدعاء الخيال الذي يمنح صور جاذبة ومفارقة للواقع، وبالتالي فإن الكلمة تتجاوز رسمها المكتوب إلى عوالم مختلفة لتسبر أبعاد متعددة حول المرئي واللامرئي، وكذا المستتر والمكشوف والامتلاء والفراغ وغيرها في ثنائية لا تنتهي؛ فالكلمة بالضرورة يتحقق من خلالها المعاني المدركة وكذا الغائبة، وإلا كيف لنا أن نستميل القارئ ونضعه في قلب الصورة؟ كيف يكون المتلقي في حوزتنا وضمن مسار رؤيتنا وقراءتنا للوقائع والأحداث والموجودات في مسرح الحياة؟، فالمعادل الموضوعي والجوهري لهذه الثنائيات يجعل الكلمة تستمد مكانتها وكينونتها في الوجود برمته ليتحقق رونقها وألقها وبريقها حين ترتصف مع شقيقتها التي تتجاور معها وهي لا تُعتَسف وغير قلقة في موضعها، ليكون المعنى أوسع من الصوت المسموع للكلمة، واشمل من عدد حروفها وتتجاوز لدلالات مختلفة ومتعددة، وهذه التعددية الشمولية تُخرج الكاتب من زمنه ومكانه إلى بيئة أخرى حاضنة بروافعها وبكل مؤثراتها الصوتية والبصرية، واستتباعاً لذلك يتغير بُعد المكان والزمان من خلال فطنة تذاهنية مستمرة توازي التحديات نحو كل الموجودات في هذا الأفق الواسع، فإذا كان كل شي جميل على مبدأ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، وعلى قاعدة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، فعليه يكون مرد القبح في أنفسنا أو ربما غفلتنا عن مواطن الجمال وسيرورته من خلال نظرتنا السطحية للحياة والوجود. وعندها نعجز عن القدرة على الكتابة وتغيب المفردة وتَشِح المعلومة، وبالتالي تغيب جملة من المقومات ومنها الجمال، فالجمال مطلب فطري عند البشر ولا يجب أن يغيب هذا المفهوم أو يتجاهله الإنسان بل عليه أن يُربيه في نفسه، ويروض ذاته لخبرة جمالية تدرك موحيات هذا الوجود ويحث على تطويرها تبعا لمراده في أبعاد الجمال وتتبع مساراته ليتمكن من نظرته الجمالية إلى مقاربة بصرية تستدعي كل بُعد على اتساع مداه، عند ذلك فقط يكون استطاع الوصول إلى غير المرئي المجرد وأتقن فن الكسب المعرفي للكتابة التي موصولة بالعقل وبملكة أدبية ناجمة عن ذوق وحدس وخيال واسع ليكتب بعض الكلام ليدلل من خلاله على كل الكلام.