في زمنٍ تزدحم فيه الأصوات وتختلط فيه الشعارات بالمزايدات، تبقى السعودية استثناءً بهدوئها وثباتها، لا ترفع الشعارات بل تصنع الفعل. فالمواقف لا تُقاس بما يُقال على المنابر، بل بما يُنجز على الأرض ويُترجم إلى مواقف عملية تُعيد صياغة موازين المنطقة والعالم. لقد أثبتت الدبلوماسية السعودية خلال الأشهر الماضية أنها الأقدر على صناعة التوازن في أكثر الملفات حساسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فالجهود التي قادت إلى الاتفاق الأخير على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، عقب قمة شرم الشيخ للسلام، لم تكن وليدة ظرفٍ سياسي، بل ثمرة مسار طويل من الحراك الدبلوماسي الهادئ الذي بدأ منذ اندلاع الحرب على غزة، وامتداد لنهجٍ سعوديٍّ راسخٍ يقوم على المبدأ لا المصلحة، والفعل لا الشعارات. فمنذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، والسعودية تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مبدئية لا موسمية. وجاءت مبادرة فاس التي طرحها الملك فهد بن عبدالعزيز عام 1981م لتؤسس لأول مشروع عربي متكامل للسلام العادل. واليوم، تمتد تلك السلسلة في رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، التي تؤكد أن حل الدولتين على حدود 1967م والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ليس شعارًا دبلوماسيًا بل التزاماً استراتيجياً لإعادة الأمن والاستقرار للمنطقة. القمة العربية - الإسلامية الطارئة التي عُقدت في الرياض في نوفمبر 2023 كانت نقطة التحول الكبرى؛ فقد أسفرت عن تشكيل لجنة وزارية برئاسة المملكة لتوحيد الموقف العربي والإسلامي، تلتها جولات مكوكية قادها الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية، شملت بكين، موسكو، باريس، لندن، واشنطن، وروما. لم تكن تلك الجولات مجاملة بروتوكولية، بل رسائل سيادية حملت صوتًا عربيًا واقعيًا ومتماسكًا. وفي أكتوبر 2025، جاءت قمة شرم الشيخ للسلام بمشاركة أكثر من عشرين زعيمًا عالميًا وبرعاية مصرية - أميركية - قطرية، وأسفرت عن تبنّي اتفاق غزة لوقف إطلاق النار. تضمّن الاتفاق فتح الممرات الإنسانية وتبادل الأسرى، وإطلاق مرحلة انتقالية في غزة تحت إشراف إقليمي ودولي. وهي البنود نفسها التي دعت إليها المملكة منذ البداية: وقف العمليات العسكرية وإطلاق مسار سياسي شامل يقوم على العدالة لا القوة. في موازاة الحراك السياسي، ظل الدور الإنساني السعودي حاضرًا بصمتٍ وفاعلية. فقد موّلت المملكة تشغيل عددٍ من المستشفيات والمراكز الطبية في غزة دون أن ترفع على أبوابها شعارًا أو اسمًا. لأن السعودية، كما اعتادت، ترى أن الإغاثة موقفٌ أخلاقي لا إعلانٌ دعائي، وأن قيمة الفعل الإنساني تُقاس بصدقه لا بحجمه الإعلامي. وهذا النهج الصادق جعل العالم ينصت حين تتحدث الرياض، لأنها تتحدث من موقع المصداقية لا المصلحة، ومن منطلق القيم لا المناورة. لقد غيّرت السعودية خلال العامين الماضيين شكل التفاعل الدولي مع أزمات المنطقة، من المواجهة إلى التفاهم، ومن الانفعال إلى الحوار. وباتت اليوم مركز التوازن الذي تُبنى حوله الحلول لا الأزمات. فعندما تدعو المملكة إلى السلام، فهي لا تكرر خطابًا دبلوماسيًا، بل تقدم مشروعًا واقعيًا للحياة وسط الركام. ختامًا تؤكد الأحداث الأخيرة أن السعودية ليست مجرد طرف في مشهد الشرق الأوسط، بل هي مركز الثقل الأخلاقي والسياسي فيه. ففي زمنٍ تتسابق فيه العواصم على التصريحات، تختار المملكة طريق الفعل، وتُعيد تعريف القوة بمعناها الحقيقي: القدرة على تحقيق السلام لا إشعال الصراع. وهكذا، تبقى السعودية -بهدوئها وثباتها- تصنع التاريخ كما تصنع الفعل، لا بالكلمات... بل بما يترسخ واقعًا يعيشه الجميع.