حراك متنامٍ    اكتشاف نادر لشجرة «السرح» في محمية الملك عبدالعزيز    الأراضي الزراعية تقود ارتفاع العقار وترتفع 15.3%    2.8 مليار دولار استثمارات الأجانب بالأسهم السعودية    1500 زيارة لضبط التزام المصانع    باريس سان جرمان يسحق ليفركوزن بسباعية ويواصل العلامة الكاملة    الزعيم يعبر السد بثلاثية    الهلال يتفوق على السد بثلاثية    أرسنال يكتسح أتلتيكو مدريد برباعية في دوري أبطال أوروبا    برعاية سمو وزير الثقافة.. منتدى الأفلام السعودي الثالث ينطلق اليوم    مسجد الغمامة.. عراقة العمارة والإرث    الخلود ينوع اللعب    روسيا تضرب شبكة الطاقة الأوكرانية وأوروبا تتحرك لإجبار بوتين على السلام    إصابة ياسين بونو أمام السد.. واللاعب يعتذر    إعادة إعمار غزة.. من المسؤول؟    «عملية نقل الأتربة» إضافة جديدة لجرائم بشار الأسد    إيران تلغي اتفاق التعاون مع الوكالة الدولية    واشنطن تضغط لإطلاق المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة    الهلال يُكرم سالم الدوسري    تعليم الطائف يطلق جائزة سمو محافظ الطائف " ملهم" للتميّز التعليمي في دورتها الثانية    الالتزام البيئي يطلق غدا التمرين التعبوي في سواحل المنطقة الشرقية    ختام المشاركة السعودية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب    تواصل أعمال المؤتمر الدولي لمستقبل الزراعة 2025    العنزي مديرا للإعلام والاتصال    نائب أمير منطقة مكة يستقبل معالي وزير الحج والعمرة    بين الغرور والغطرسة    اللواء المربع يدشن (4) خدمات إلكترونية للأحوال المدنية عبر منصة أبشر    القبض على 12 مخالفاً لتهريبهم (198) كجم "قات" بجازان    سابقة في فرنسا.. ساركوزي يدخل السجن    خام برنت يتراجع إلى 60.71 دولار للبرميل    وزير الخارجية ونظيره الهولندي يبحثان العلاقات الثنائية    أسواق العثيم تحصد جائزة المسؤولية الاجتماعية للشركات لعام 2025 عن فئة الشركات العملاقة    نائب أمير جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    السعودية تؤكد دعمها الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق الأمن والسلم    "دله الصحية" شريك تأسيسي في معرض الصحة العالمي 2025 و"عيادات دله" ترعى الحدث طبيّاً    العلا.. وجهة عشاق الطبيعة والفن والتاريخ    بيع شاهين فرخ ب 120 ألف ريال في مزاد نادي الصقور السعودي 2025    نائب أمير الشرقية يطّلع على إنجازات وبرامج جامعة الأمير محمد بن فهد    محافظ بيش يستقبل شيخ شمل السادة الخلاوية والشابين المبدعين الشعفي    جمعية التطوع تطلق مركز (مفاز للإعلام الاجتماعي)    سعد سفر آل زميع للمرتبة الخامسة عشر    التدريبات الرياضية هي أفضل علاج لأوجاع التهاب مفاصل الركبة    المساعدة القهرية    صانع المحتوى وردة الفعل    تسجيل 184 موقعاً أثرياً جديداً في السعودية    تستهدف تصحيح أوضاع العاملين في هذه الأنشطة.. إطلاق اشتراطات أنشطة المياه غير الشبكية    نائب ترمب: وقف إطلاق النار أمام تحديات كبيرة    بجانب 20 موظفاً أممياً.. الحوثيون يحتجزون ممثل اليونيسف في صنعاء    استقبل الفائز بالمركز الأول بمسابقة تلاوة القرآن بكازاخستان.. آل الشيخ: دعم القيادة لحفظة كتاب الله يحقق الإنجازات    استقبل وزير الحج والعمرة.. نائب أمير مكة: العمل التكاملي يعزز جودة خدمات ضيوف الرحمن    120 مليار استثمار أجنبي مباشر ..الفالح: 4.8 تريليون ريال حجم الاقتصاد السعودي    متلازمة المبيض متعدد الكييسات (2)    علماء يطورون ذكاء اصطناعياً لتشخيص ورم الدماغ    الوقت في المدن الكبرى: السباق مع الزمن    أمير القصيم يدشن مشروعي "التاريخ الشفوي" و"تاريخنا قصة"    خطر بطاريات ألعاب الأطفال    نائب أمير مكة يترأس اجتماع محافظي المنطقة لمتابعة مشاريع التنمية وتحقيق مستهدفات رؤية 2030    ولي العهد يعزي رئيس وزراء اليابان في وفاة توميتشي موراياما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة الهادئة والقوة الصاعدة
نشر في الرياض يوم 14 - 10 - 2025

شهدت العلاقات السعودية-الصينية خلال السنوات الأخيرة نموًا متسارعًا وتحولًا نوعيًا يعكس تغيّر موازين القوى والتوجهات في النظام الدولي الحديث. فمن علاقة اقتصرت في بداياتها على تبادل اقتصادي وتجاري محدود، إلى شراكة استراتيجية متكاملة تتقاطع فيها المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية. تطوّر هذا التقارب على خلفية التحولات العالمية التي أعادت رسم ملامح العلاقات بين الشرق والغرب، إذ باتت الصين اليوم شريكًا رئيسيًا للعديد من دول الشرق الأوسط، فيما تسعى المملكة العربية السعودية إلى تنويع تحالفاتها الدولية بما يواكب مكانتها الإقليمية ودورها في صياغة مستقبل المنطقة. ويأتي هذا التقارب في ظل واقع عالمي يشهد تحولات كبرى في مجالات الطاقة والتقنية والاقتصاد، حيث أصبحت بكين ثاني أكبر شريك تجاري للمملكة، في حين تمثل الرياض مصدرًا رئيسيًا لتأمين احتياجات الصين من النفط، الأمر الذي رسّخ المصالح المتبادلة بين البلدين وجعلها تتجاوز البُعد الاقتصادي لتشمل التعاون السياسي والدبلوماسي والثقافي. إن العلاقة بين الرياض وبكين لم تعد مجرد علاقة تبادل مصالح، بل أصبحت نموذجًا لتوازن دقيق في السياسة الخارجية، يجمع بين الواقعية الاقتصادية والمرونة الدبلوماسية. فالسعودية تدرك أهمية الانفتاح على القوى الصاعدة دون الإخلال بتحالفاتها التقليدية، والصين بدورها تنظر إلى المملكة باعتبارها بوابة محورية للعبور نحو العالم العربي والإسلامي ومركزًا مهمًا في منظومة الطاقة العالمية. ومع تسارع خطوات التقارب وتزايد حجم التعاون في مختلف المجالات، تبرز العلاقات السعودية-الصينية كأحد أهم المسارات التي تعكس التحول في المشهد الدولي الجديد، حيث لا تعتمد الدول على التحالفات الثابتة بقدر ما تبني علاقاتها على المصالح المشتركة والتفاهمات المتبادلة.
الانفتاح المتوازن
حين نتتبع مسار التحركات السعودية في الإقليم والعالم، نكتشف ملامح سياسة خارجية جديدة تتكئ على التوازن والمرونة والتعدد في الشراكات. فالمملكة لم تعد تُقاس مواقفها بميزان الانحياز لمحاور أو اصطفافات أيديولوجية، بل بميزان المصالح الوطنية والرؤية الاستراتيجية طويلة المدى التي رسمتها قيادتها. في عالم يتبدّل بسرعة، أدركت الرياض أن دورها لا يُبنى على ردّات الفعل، بل على الفعل المدروس القائم على قراءة دقيقة لموازين القوى. فبين الولايات المتحدة، الشريك الأمني والتاريخي الأهم، والصين، القوة الاقتصادية الصاعدة وشريك المملكة في الطاقة والبنية التحتية والتقنية، تنتهج المملكة سياسة تقوم على "الانفتاح المتوازن" — لا انحياز، ولا قطيعة، بل تفاعل عقلاني مع الجميع بما يخدم مصالحها ومصالح المنطقة. وقد عبّر وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان عن هذا التوجه في أكثر من مناسبة بقوله إن «المملكة ليست مضطرة للاختيار بين شركائها»، في إشارة واضحة إلى أن السياسة السعودية تقوم على تعدد المسارات، وأن علاقاتها مع القوى الكبرى تُبنى على أسس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على قاعدة "إما نحن أو هم".
هذا التوجه لم يأتِ من فراغ، بل يعكس فلسفة دبلوماسية سعودية جديدة تشكّلت بوضوح خلال العقد الأخير. فالسعودية اليوم ليست فقط مركزًا اقتصاديًا مؤثرًا، بل لاعبًا سياسيًا محوريًا في إدارة ملفات الإقليم والعالم. وفي ظلّ التنافس الأميركي-الصيني المتصاعد، تمكّنت الرياض من الحفاظ على علاقات وثيقة مع الطرفين، واستثمرت في بناء مساحة حوار مع كلٍّ منهما، ما منحها موقعًا فريدًا بوصفها قوة توازن في مشهد عالمي مضطرب.
فمع واشنطن، تستمر العلاقات الاستراتيجية في مجالات الدفاع والأمن والتقنية، وهي علاقة تمتد لأكثر من ثمانية عقود من الشراكة والتنسيق المشترك. أما مع بكين، فقد توسّعت العلاقات لتشمل مشاريع كبرى في الطاقة والبتروكيماويات والبنية التحتية، إضافة إلى التعاون في مجالات التقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي. ويأتي ذلك في سياق رؤية المملكة 2030 التي تستهدف تنويع الاقتصاد والانفتاح على الأسواق الآسيوية. ولعل أبرز ما يميّز السياسة السعودية أنها لا تكتفي بدور المتلقّي، بل تسعى إلى صياغة دورها وفق رؤية واقعية قائمة على الاستقلالية والاحترام المتبادل. فالمملكة اليوم تتحرك من موقع الفاعل لا التابع، ومن منطلق أن مصالحها الوطنية فوق كل اعتبار. فهي تدرك أن التحديات العالمية —من أمن الطاقة إلى استقرار الأسواق إلى التغير المناخي— تتطلب تعدد الشركاء، لا الارتهان لطرف واحد. وهكذا، تواصل المملكة تعزيز مكانتها كقوة توازن وحوار في عالم تتقاطع فيه المصالح وتتنافس فيه القوى العظمى. دبلوماسية هادئة، لكنها مؤثرة؛ واقعية، لكنها مبدئية؛ تمزج بين الحزم والمرونة، وتضع المصلحة الوطنية أولًا، والاستقرار الإقليمي والدولي هدفًا دائمًا.
علاقات ثنائية بلا ضجيج سياسي
منذ مطلع الألفية الجديدة، بدأت ملامح العلاقة بين الرياض وبكين تتشكل على نحوٍ هادئ ومدروس، بعيدًا عن الصخب الإعلامي أو التوترات السياسية التي كثيرًا ما تُحيط بعلاقات القوى الكبرى. هذا النهج السعودي القائم على الدبلوماسية الهادئة لم يكن خيارًا عابرًا، بل استراتيجية متكاملة صاغتها القيادة السعودية بدقة، لتوازن بين متطلبات الانفتاح على الشرق والحفاظ على علاقاتها التاريخية مع الغرب. فالمملكة، التي طالما عُرفت بقدرتها على نسج تحالفات قائمة على المصالح لا العواطف، أدركت مبكرًا أن الصين تمثل قوة صاعدة لا يمكن تجاهلها في معادلات الاقتصاد العالمي والطاقة الدولية.
الرياض لم تسعَ إلى بناء تحالفات صاخبة أو تحركات دعائية، بل فضّلت أن تُقيم الجسور بصمتٍ فعّال. فالعلاقات السعودية الصينية نشأت وتطورت عبر مسارٍ من اللقاءات الرسمية والاتفاقيات الاقتصادية دون أن تُحمَّل بشعارات أيديولوجية أو اصطفافات سياسية. كانت المملكة ترى في الصين شريكًا يمكن أن يُسهم في تحقيق طموحاتها التنموية ضمن رؤية 2030، بينما كانت بكين تنظر إلى الرياض بوصفها شريكًا موثوقًا في منطقة حيوية تُشكّل قلب العالم في ملف الطاقة وأحد أعمدة الاستقرار الإقليمي. وقد ساهم هذا الهدوء الدبلوماسي في خلق مساحة آمنة للحوار والتعاون، إذ لم تتدخل السعودية في الشؤون الداخلية للصين، ولم تستخدم الصين علاقاتها الاقتصادية لأهداف سياسية، بل حافظ الطرفان على مبدأ "المنفعة المتبادلة وعدم التدخل"، وهو ما جعل العلاقة تنمو على أساس متين من الثقة المتبادلة. وفي حين كانت بعض القوى الدولية تسعى إلى استقطاب السعودية إلى محاور متصارعة، كانت الرياض تمضي في مسارها الخاص، رافعة شعار "الشراكات المتوازنة"، الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في أكثر من مناسبة حين قال إن المملكة لا تختار بين شركائها، بل تبني علاقاتها وفق مصالحها الوطنية واستقرار المنطقة.
وجاءت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في ديسمبر 2022 لتُتوج هذا المسار الطويل من الدبلوماسية الهادئة، إذ شهدت الزيارة توقيع أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تفاهم شملت الطاقة، والاستثمار، والتقنية، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية. كما استضافت المملكة ثلاث قمم كبرى خلال تلك الزيارة: القمة السعودية-الصينية، والقمة الخليجية-الصينية، والقمة العربية-الصينية، ما عكس الثقل الإقليمي والدولي الذي تتمتع به الرياض، وقدرتها على الجمع بين الشرق والغرب على طاولة واحدة دون انحياز أو تصادم. ورغم عمق هذا التقارب، لم يكن الهدف السعودي هو استبدال واشنطن ببكين، بل بناء علاقة تكاملية تُحقق التنوع في الشراكات وتعزّز استقلال القرار الوطني. فالصين تُعد اليوم أكبر مستورد للنفط السعودي، وأحد أكبر المستثمرين في مشاريع البنية التحتية والطاقة المتجددة، مثل مشروع "نيوم" ومشاريع "الطاقة النظيفة" ضمن رؤية 2030. وفي المقابل، تدرك بكين أهمية السعودية بوصفها محورًا رئيسيًا في مبادرة "الحزام والطريق"، وبوابة اقتصادية نحو أفريقيا وأوروبا. لقد استطاعت المملكة عبر هذا النهج أن تقدم نموذجًا مختلفًا في العلاقات الدولية، يقوم على القوة الهادئة لا الصدام، وعلى بناء المصالح قبل المواقف، وعلى الحوار بدل التبعية. إنها دبلوماسية "الهدوء الفاعل" التي تُعبّر عن مرحلة جديدة في السياسة السعودية، تُعيد فيها الرياض رسم موقعها على خريطة العالم كدولة تتقن فن التوازن، وتدرك أن العالم لا يُدار بالضجيج بل بالعقل، ولا يُبنى بالاصطفاف بل بالحكمة. وهكذا، بينما تُكثّف بكين حضورها في الشرق الأوسط عبر الاقتصاد والبنية التحتية، تمضي السعودية في ترسيخ موقعها كصاحبة القرار في تحديد إيقاع العلاقة، لا تندفع ولا تتراجع، بل تواصل بثبات صناعة واقع جديد من العلاقات المتعددة الأقطاب، حيث تكون المملكة جسرًا بين الشرق والغرب، وصوتًا للعقل وسط عالم مضطرب.
تلاقي المصالح في عالم متعدد الأقطاب
تؤمن المملكة العربية السعودية بأن العالم يسير بخطى متسارعة نحو نظام دولي جديد، تتوزع فيه مراكز القوى والتأثير، وتتكامل فيه المصالح بدل أن تتصارع. ومن هذا المنطلق، تبرز الصين في الرؤية السعودية كشريكٍ محوري في بناء عالمٍ متعدد الأقطاب، يقوم على التوازن والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على الهيمنة والإملاءات السياسية.
في منظور الرياض، لم تعد العلاقات الدولية تُقاس فقط بمعيار التحالفات التقليدية، بل بقدرة الدول على صياغة معادلاتٍ جديدة تحافظ على استقلالها وتنوع شراكاتها، وتستثمر في التغيرات العالمية لصالح التنمية والاستقرار. ولهذا، تنظر المملكة إلى الصين بوصفها أحد الأعمدة الرئيسة في هذا التحول، ليس فقط لقوتها الاقتصادية والتقنية المتنامية، بل لدورها المتزايد في إعادة تشكيل موازين القوى العالمية.
إن انفتاح السعودية على الصين يأتي في إطار رؤية أوسع تتسق مع فلسفة رؤية 2030، التي تسعى إلى تنويع مصادر القوة الوطنية، سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، وبناء شبكة علاقات متوازنة مع الشرق والغرب على حد سواء. وتترجم هذه الفلسفة عمليًا عبر تعاونٍ استراتيجي في مجالات الطاقة، والتقنية، والبنية التحتية، والتعليم، والاستثمار، ما يجعل من العلاقة السعودية–الصينية نموذجًا لتكاملٍ هادئ بين الشرق الأوسط وآسيا.
في العالم المتعدد الأقطاب الذي تتصوره المملكة، ليست الصين مجرد طرفٍ اقتصادي، بل شريك في رسم ملامح مرحلةٍ أكثر عدلاً في توزيع النفوذ والفرص، حيث تُسمع فيها أصوات الدول الصاعدة، وتُعاد فيها صياغة مفهوم القوة بما يخدم التنمية لا الصراع.
توازن جديد في زمن ما بعد الأزمات
أعادت التحولات التي شهدها العالم بعد الأزمة الأوكرانية صياغة ملامح النظام الدولي، فبرزت معها اتجاهات جديدة في السياسة والاقتصاد، تقوم على المرونة وتعدد الشراكات. وفي هذا السياق، جاء التعاون السعودي–الصيني ليعبّر عن مرحلة أكثر نضجًا في الدبلوماسية الدولية، حيث باتت الرياض وبكين تتحركان ضمن رؤية تقوم على تنويع العلاقات وتعزيز الاستقلالية في اتخاذ القرار.
لقد أسهم التقارب بين البلدين في ترسيخ مبدأ التوازن داخل النظام العالمي، إذ باتت السعودية تلعب دورًا أكثر تأثيرًا في ربط الشرق بالغرب، مستندة إلى مكانتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي ودورها كمصدر للطاقة والاستقرار. أما الصين، فترى في المملكة شريكًا استراتيجيًا يعزز حضورها في المنطقة، ويمنح نموذجها التنموي بعدًا عالميًا أكثر انفتاحًا.
هذا التعاون لا يقتصر على الاقتصاد فحسب، بل يمتد إلى مفاهيم أعمق تتعلق بكيفية إدارة العلاقات الدولية بعيدًا عن الاستقطاب، في إطار من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وهكذا، أصبح التقارب السعودي–الصيني أحد ملامح النظام الدولي الجديد، الذي يتجه نحو التعددية والتكامل، لا الصراع والاصطفاف.
وبينما يعيد العالم تعريف موازينه بعد الأزمات، تبرز السعودية كقوةٍ وازنة تمتلك القدرة على التفاعل مع جميع الأطراف دون أن تفقد توازنها أو هويتها السياسية، لتؤكد من جديد أن سياستها الخارجية تقوم على الرؤية لا على ردّ الفعل، وعلى الشراكة لا على التبعية.
وجاءت الوساطة السعودية-الصينية-الإيرانية كإحدى أبرز الإشارات على نضوج الدور السعودي في إعادة صياغة العلاقات الإقليمية برؤية تقوم على التهدئة والتوازن. فالمملكة، التي طالما اختارت طريق الدبلوماسية الهادئة، نجحت في أن تكون محورًا جامعًا لا ساحة صراع، مؤكدة أن الاستقرار الإقليمي لا يُبنى على المواجهة بل على الحوار.
من خلال هذه الوساطة، قدمت الرياض نموذجًا جديدًا في إدارة الخلافات، يعتمد على بناء الثقة وتغليب لغة المصالح المشتركة على الانقسامات الأيديولوجية. لم تكن الخطوة مجرد تفاهم أمني أو ترتيب سياسي مؤقت، بل مؤشرًا على تحولٍ أعمق في منهج إدارة المنطقة، حيث تسعى السعودية إلى هندسة توازنٍ إقليمي جديد تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى مع تطلعات الشعوب نحو التنمية والأمان.
لقد أظهرت هذه المبادرة أن المملكة باتت لاعبًا رئيسًا في معادلة الشرق الأوسط الجديدة، تمتلك أدوات التأثير وتُحسن قراءة المشهد الدولي، وتعمل على تحويل الخلافات إلى فرص. وهي بذلك ترسخ مكانتها كدولة مسؤولة توازن بين صرامة الموقف ومرونة الدبلوماسية، وتضع أسسًا لنظامٍ إقليمي يقوم على العقلانية والشراكة بدلًا من الاستقطاب والاصطفاف.
إن هذا الدور الوسيط الذي اضطلعت به الرياض، يعكس فهمًا عميقًا للتحولات الجارية في المنطقة، وقدرةً على توظيف اللحظة التاريخية لصالح مشروعٍ أوسع: شرق أوسط مستقر، متعاون، ومتصل بالعالم الجديد بثقةٍ واتزان.
اللغة المشتركة: التنمية أولًا
في عمق العلاقة بين الرياض وبكين، تتجلى لغة واحدة يفهمها الطرفان دون ترجمان: لغة التنمية. فكلتا الدولتين تنطلقان من إيمانٍ راسخ بأن التقدم لا يتحقق بالشعارات، بل بالعمل والإنتاج والاستثمار في الإنسان قبل البُنيان. ولهذا، يلتقي الحلم السعودي والحلم الصيني في نقطة محورية؛ وهي تحويل الطموح إلى واقع ملموس، والتنمية إلى وسيلة لبناء مكانة عالمية راسخة.
ترى المملكة في التنمية طريقًا لتحقيق رؤيتها الطموحة نحو تنويع الاقتصاد وتمكين الأفراد وتعزيز الرفاه الاجتماعي، فيما تنظر الصين إلى التنمية بوصفها عماد قوتها واستقرارها ووسيلتها للانفتاح على العالم. هذا التلاقي في الفلسفة يجعل العلاقة بين البلدين تتجاوز لغة الأرقام والتجارة، لتتحول إلى شراكة فكرية تؤمن بأن ازدهار الداخل هو أساس احترام الخارج.
إن "الحلم" لدى الطرفين ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل تصور متكامل لمستقبلٍ تتشارك فيه الأمم مسؤولية النهوض بعيدًا عن الهيمنة والصراع. ومن هنا، تتقاطع رؤية السعودية 2030 مع الرؤية التنموية الصينية في الإيمان بأن القوة الحقيقية تنبع من القدرة على البناء، لا من التنافس على السيطرة.
وفي ظل عالمٍ يبحث عن توازن جديد، تبدو هذه اللغة المشتركة بين الحلمين السعودي والصيني بمثابة جسرٍ حضاري يربط الشرق بالشرق، ويضع التنمية في مقدمة المشهد كقيمةٍ إنسانية عالمية، تقود نحو السلام والازدهار بدل التوتر والانقسام.
الاستراتيجية الصينية
في الشرق الأوسط.. رؤية سعودية
تنظر المملكة العربية السعودية إلى الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط من زاويةٍ واقعيةٍ تقوم على الفهم العميق لمعادلات القوة الجديدة في العالم، وتقديرٍ واعٍ للتحولات التي تشهدها المنطقة. فبكين في منظور الرياض لا تتحرك بدوافعٍ أيديولوجية أو توسعية، بل وفق منهجٍ براغماتي هادئ يوازن بين المصالح الاقتصادية والاستقرار السياسي، ويسعى إلى توسيع النفوذ من خلال التعاون لا المواجهة. ومن هذا المنطلق، تقرأ السعودية الدور الصيني كعامل يمكن أن يسهم في تحقيق التوازن، لا كتهديد يخلّ به.
تدرك الرياض أن بكين تتعامل مع الشرق الأوسط بمنطق "الشريك لا الخصم"، وبمنهجٍ يرتكز على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما يتقاطع مع أسس السياسة الخارجية السعودية التي تُعلي من مبدأ السيادة والاستقلال. لذلك، تنظر المملكة إلى التحركات الصينية في المنطقة باعتبارها جزءًا من مرحلة إعادة ترتيب المشهد الدولي، التي تتطلب من الدول الكبرى والإقليمية تبنّي سياسات أكثر واقعية ومرونة.
هذا الفهم السعودي لاستراتيجية الصين ينبع من قراءة دقيقة للمتغيرات العالمية، فالمملكة ترى أن العالم يتّجه نحو تعدديةٍ في مراكز القرار، وأن الشرق الأوسط لم يعد مجرد ساحة نفوذٍ للغرب، بل بات فضاءً رحبًا للتفاعل بين قوى متعددة تبحث عن الاستقرار والنمو. وفي هذا السياق، لا تمانع الرياض في أن تكون الصين طرفًا فاعلًا، طالما أن حضورها يسهم في تعزيز التنمية وتخفيف حدة الاستقطاب.
إن النظرة السعودية تجاه الاستراتيجية الصينية ليست محصورة في الاقتصاد أو السياسة فحسب، بل تمتد إلى إدراكٍ أعمق لدور "النهج الصيني" في صياغة نمطٍ جديد من العلاقات الدولية يقوم على المصالح المتبادلة والاحترام المشترك. وبذلك، تُظهر المملكة قدرة عالية على قراءة اتجاهات المستقبل، حيث لا مجال للانغلاق أو الارتهان، بل لسياستها المرنة التي تتيح لها التعامل مع جميع القوى بروح الشراكة والانفتاح.
من هذا المنظور، تبدو الرياض وبكين وكأنهما تتحركان على مسارٍ متوازٍ - كلتاهما تسعيان لبناء بيئةٍ عالميةٍ أكثر توازنًا، تُعيد تعريف النفوذ عبر التنمية لا الصراع، وتضع الأسس لعلاقاتٍ دولية تحترم التنوّع وتحتفي بالتكامل. وفي قلب هذه المعادلة، تبرز السعودية كدولةٍ تمتلك رؤية مستقبلية ناضجة، تدرك أن التعامل مع القوى الكبرى لا يعني الانحياز، بل القدرة على توظيف المصالح المشتركة في خدمة مشروعٍ وطني وإقليمي أكبر.
إن العلاقات السعودية–الصينية ليست مجرد فصلٍ في سجل التحالفات الدولية، بل نموذج حي لكيفية إعادة صياغة السياسة الخارجية في عالم متعدد الأقطاب. فقد نجحت المملكة في الجمع بين الانفتاح على القوى الصاعدة والحفاظ على شراكاتها التاريخية، معتمدة على منهجية الواقعية والبراغماتية التي تراعي مصالحها الوطنية والاستقرار الإقليمي على حد سواء. هذا التوازن بين الشرق والغرب لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج رؤية استراتيجية طويلة المدى ترى في التعددية قوة، وفي التعاون البناء أداة للتنمية والأمان.
تُظهر السعودية من خلال علاقاتها مع الصين قدرةً على قراءة المشهد الدولي بدقة، وتحويل التحديات العالمية إلى فرص للتأثير الإيجابي، سواء عبر الاقتصاد أو السياسة أو الدبلوماسية. وقد برزت المملكة كقوة وسطية تتقن فن الحوار، وتحمي استقلال قرارها، وتحوّل الخلافات الإقليمية إلى فرص للتفاهم، مما يعكس نضجًا في أدواتها الدبلوماسية وقدرة على إدارة الأزمات بذكاء وهدوء.
كما أن العلاقة السعودية–الصينية تُبرز لغة مشتركة تتجاوز المصالح المادية، وهي لغة التنمية والتقدم المستدام، التي تجعل من التعاون نموذجًا يُحتذى في بناء الشراكات بين الدول الصاعدة والقديمة على حد سواء. وفي الوقت ذاته، تُظهر هذه الشراكة أن القوة الحقيقية لا تُقاس بالهيمنة أو الضغوط، بل بالقدرة على الابتكار والتأثير الإيجابي في تشكيل النظام الدولي الجديد.
وفي ضوء كل هذه المعطيات، يمكن القول إن السعودية استطاعت أن ترسم لنفسها مكانًا فريدًا في العالم، ليس فقط بوصفها لاعبًا محوريًا في الاقتصاد والطاقة، بل كصانعة للتوازن، ومُعيدة تعريف أسس العلاقات الدولية في عصرٍ يتسم بالتغير السريع والتحولات الكبرى. فالتقارب مع الصين، والتوازن بين القوى العالمية، والاستقلالية في القرار، كلها مكونات لرؤية واضحة للمملكة، تجعلها نموذجًا لدولةٍ تحقق طموحاتها الوطنية بينما تُسهم في تشكيل عالمٍ أكثر توازنًا واستقرارًا، حيث تصبح المصالح المشتركة والتنمية المستدامة لغة العلاقات بين الدول لا الصراعات والخلافات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.