بينما تهتز المنطقة تحت وقع التوترات، تتقدّم المملكة بثبات نحو مسار مختلف تمامًا، مسار يختار العقل والحكمة على الانفعال، والسيادة الهادئة على الاندفاع السياسي، في هذه الأوقات الحرجة من التحولات، تثبت المملكة أنها ركيزة الاستقرار. ففي وقتٍ تتسابق فيه القوى على تعزيز الاستقطاب وفرض الأمر الواقع، اختارت الرياض أن تكون جسرًا بين الضفتين وعضواً مؤثراً فاعلًا في ضبط إيقاع الإقليم، نهجها ليس انكفاءً، بل تصميم واعٍ على أن الحلول لا تولد من الفوضى بل من الاتزان. لم تعد دبلوماسية المملكة تكتفي بإعلان المواقف، بل أصبحت أداة تأثير حقيقية، تصوغ من خلالها معادلات الاستقرار في زمنٍ فقدت فيه المعادلات معناها، هذا ما برز بوضوح في سلسلة الاتصالات التي أجراها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- مع عدد من قادة دول العالم والمنطقة، مؤكدًا أهمية خفض التصعيد، وضبط النفس، والاحتكام إلى منطق الدولة لا منطق الجماعات. النهج السعودي ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لمسار طويل من العمل السياسي الرصين، من اتفاق بكين الذي أعاد تشكيل العلاقات في الإقليم، إلى قمة جدة التي وضعت معيارًا جديدًا للعمل العربي الجماعي، إلى الوساطات في السودان ولبنان وغزة واليمن، فالمملكة لم تغادر موقعها كقوة سلام، بل عززته بإرادة سيادية ورؤية بعيدة المدى. ما يميز الدبلوماسية السعودية اليوم أنها تتحرك بذكاء استراتيجي لا يُرهن القرار الوطني لإملاءات الخارج، ولا ينجر وراء صراعات المحاور، بل تبني موقفها من منطق المصالح الكبرى للمملكة والمنطقة، وتحافظ على توازن دقيق بين الحياد النشط والتأثير الفاعل، بين الصمت المسؤول والكلمة التي تصنع الفرق. الأمير محمد بن سلمان، وهو يدير ملفات المنطقة بتوازن نادر، لا يقدم مجرد موقف سعودي، بل يرسي نموذجًا جديدًا لما يمكن أن تكون عليه القيادة السياسية في عالم مضطرب، فالمملكة اليوم لا تكتفي بدورها، بل تكتبه بنفسها، وتصنع من الدبلوماسية رافعة لمكانتها. في زمن الحيرة، تبقى المملكة بوصلة العقل العربي، ودولة القرار الهادئ وسط الضجيج المرتفع ورغم كل ما يُثار من تحديات، يبقى صوت المملكة الأعلى لأنه لا يعلو بالصخب، بل بالحكمة، ولا يفرض نفسه بالقوة، بل بالثقة والاتزان.