في زمن الخمسينات، كان هناك بيتٌ من الطين، مجلسه صغير، وبَهْوُهُ واسعٌ، يتوسّطه عمودان مطليان بلونين، يتلألآن على ضوءِ الفانوس في ليالي الشتاء الهادئة. في ذلك البيت عاشت منيرة، المعروفة بين الناس باسم "أم خالد". كانت تضع على رأسها شيلتها المنخيل، التي ورثتها عن أمها، خفيفة الملمس لكنها مثقَلة بالذكريات. كانت تلفّها بعنايةٍ كل صباح، كأنها تضع تاجًا من وقارٍ وصبر على رأسها، لا يفارقها حتى في لحظات التعب والحزن. حين تهبّ نسمة المساء، تتحرّك أطراف الشيلة برفق، كأنها تروي حكاية امرأةٍ حفظت كرامتها بين طيّاتها. رزقها الله ست بنات وابنًا واحدًا، وقد كانت امرأة صبورة وطيّبة القلب. زوجها رجلٌ مكافح، يخرج من البيت مع الخيوط الأولى للفجر باحثًا عن الرزق، ويعود بعد صلاة المغرب متعبًا من المشاقّ، فيجلس ليأكل مما أعدّت له "أمّ خالد"، ثم يخلد إلى النوم بعد صلاة العشاء، وتمضي أيامه هكذا على المنوال هذا. أما "أم خالد"، فكانت تمضي نهارها بين شؤون البيت ورعاية صغارها. لم تكن متسلّحة بخبرةٍ كبيرة في التعليم، ولم تبذل جهدًا في حثّ بناتها على التعلُّم، فقد كانت ترى أنّ البنت يكفيها أن تكون ربّة بيتٍ صالحة. كانت حياتها بسيطة، عابقة برائحة القهوة والهال، وبدفء الجيران الذين يتجالسون عند العصر ليتبادلوا الأحاديث والضحكات والكلمات الطيبة. في بعض الأوقات، كانت تزورها جارتها القريبة التي كانت تُكَنّيها بمحبةٍ ب"قصيرتي"، وهي صديقتها، تقهقهان وترتشفان القهوة على أعتاب البيوت الطينية القديمة. مرّت الأيام، وزوّجت "أم خالد" خمسًا من بناتها، وأنجبن الأطفال، فيما بقيت ابنتها الصغرى بجوارها. وفي يومٍ من الأيام، كانت إحدى بناتها نُفَساء، فجاءت "أم خالد" لتساعدها وترعى وليدها. وفيما كانت في خضمّ فرحتها بحفيدها الجديد، وصلها خبرٌ نزل عليها كالصاعقة؛ أنّ زوجها قد تزوج "قصيرتها"، تلك الجارة التي كانت تعدّها أختًا وصديقة عمر. تجمّد الزمن في عينيها لحظةً، وانقبض قلبها بين حيرةٍ وألم. لم تدرِ أكان وجعها على زوجٍ نكث عهده، أم على صديقةٍ خانت القهوة والعِشرة، وباعت المودّة بثمنٍ بخس! وفي اليوم التالي للزواج، جاء زوجها إلى البيت وكان كعادته يريد ارتشاف قهوته، كأنّ شيئًا لم يكن! ائترقت "أم خالد" وأنهكها البكاء، وعيناها تورّدتا من الدموع، جالسةً على الكُرْسِيِّ في صدر الصالة، ويدها على خدّها. حين دخل وسألها عن القهوة، نظرت إليه مكسورةَ الخاطر، وقالت له بصوتٍ منهك: "تزوجت عليّ... وممّن؟ من رفيقة دربي وفنجالي!". سكت كلّ ما في المكان لحظةً، حتى كأنّما الجدران شعرت بما اعترى قلبها. لم يجِب، بل تغيّر وجهه، اشتدّ غضبه، وَدَوَّتْ كلماتُه كالرعد في البيت الصغير، حتى خُيّل للجدران أنها ستتشقق من هوْل ما سمعتْهُ. وقفت "أم خالد" بثباتٍ رغم خوفها، فيما كانت نظرتها تعكس مزيجًا من الأسى والخذلان. كانت تشعر بأنّ ما بينهما قد انكسر إلى غير رجعة، وبأنّ العِشرة الطويلة قد ضاعت في لحظة غضبٍ خالية من أيّ رحمة. لم تتكلم بعد ذلك، كانت تشد أطراف شيلتها المنخيل على كتفيها فقط، كأنها تحتمي بها من غدر الزمان. انسكب دمعُ عينيها بصمت، لا ضعفًا، بل تألُّمًا من زمنٍ كانت تظنه آمنًا فانقلب عليها بقساوته. بعد ذلك الموقف الصعب، مرّت الأيام بطيئةً موجعة. كبر أحفادها وبدأوا يملأون البيت بالضحك والفرح حتى صارت الدارة عامرة ومفعمة بالدفء والحياة. كانت تعلم بأنّ الحياة لا تتوقّف عند ظلمِ أو غدرِ الآخرين. أمّا زوجها، فاكتشفت بعد سنوات أنّ الغدر لم يجلب له الراحة، وقصيرتها قد تغيّرت أحوالها ولم تعد رفيقة الدرب مثلما كانت. وفي النهاية صارت "أم خالد" رمزاً للصبر والقوّة بين بناتها وجاراتها؛ امرأة فقدت الكثير لكنها لم تفقد الأمل وكرامتها وإيمانها بأنّ الله لا ينسى قلباً مهشَّماً.