قبل الالتحاق بالدراسة الجامعة في اليابان كان برنامجي اليومي وقت دراسة مرحلة اللغة يبدأ من التاسعة صباحاً إلى الرابعة عصراً في المعهد المتخصص باللغة اليابانية، لأنتقل بعدها إلى معهد تكميلي متخصص في المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء بين الرابعة والنصف إلى السابعة والنصف مساء، استمر هذا الوضع لمدة خمس عشر شهراً تقريباً حتى الحصول على القبول من الجامعة، لم تكن تجربة سهلة بطبيعة الحال خاصة من الناحية النفسية والاجتماعية للانشغال التام بموضوع القبول الجامعي على حساب الهوايات والصحة، وأذكر أكثر من مرة تعرضت فيها لانتكاسات نفسية بسبب الضغوطات الشديدة ولم ينقذني منها إلا لطف الله ثم دعم العائلة والأصدقاء. في الواقع تهتم الجامعات اليابانية بمعدل صعوبة الالتحاق بها، حيث يصدر تصنيف سنوي للجامعات في هذا المجال، ويبدو أن الوضع أكثر صعوبة في كوريا الجنوبية، فحسب نتائج تقييم PISA لعام 2022، تفوق الطلاب الكوريون على طلاب الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في جميع المجالات، حيث حققوا المراكز الأولى إلى الثانية في الرياضيات لمراحل سنية مختلفة، ومن الثاني إلى الخامس في العلوم، ورغم هذا التفوق لطلاب كوريا الجنوبية فقد كان ذلك على حساب أمور أخرى. بالنسبة لمعظم الطلبة الكوريين، فالهدف الأسمى هو النجاح وتحقيق أعلى الدرجات في اختبار «سونيونغ» الخاص بالقدرات الدراسية الجامعية، تم تسجيل الكثير من الحالات لطلاب في المراحل المتوسطة والثانوية يعانون الإرهاق الشديد وارتفاع مستويات القلق والتوتر والتضحية بالصحة البدنية والنفسية والهوايات والعلاقات الاجتماعية في سبيل درجة سونيونغ. ما الذي ترتب على هذا النظام التعليمي؟ تشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدلات الانتحار في كوريا الجنوبية، والتي وصلت مؤخراً إلى حوالي 25 حالة انتحار لكل مئة ألف نسمة، وهو رقم يتجاوز ضعف المعدل في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والذي يبلغ حوالي 11 حالة انتحار لكل مئة ألف نسمة. هذه الحالة الفريدة تطرح الكثير من الأسئلة، هل يعد تحقيق الطلبة الكوريين للدرجات العالية على حساب تدمير صحتهم وحياتهم نجاحاً؟ هل نشر ثقافة الاهتمام المبالغ فيه بالتصنيفات والتنافسية الشديدة والمصلحة الفردية يعتبر نجاحاً؟ من ناحية أخرى، أكاد أجزم أن الكثير من المنظمات تواجه تحديات مشابهة لثقافة تقديس درجة سونيونغ الخاصة بها، قد تتمثل تلك الثقافة في إعطاء الأولوية القصوى للمبيعات أو المستهدفات أو المصالح الضيقة للإدارة العليا على حساب غالبية الموظفين أو مصلحة المنظمة. قد تجد مديراً يتميز في رفع مداخيل الشركة أو تجاوز المستهدفات ولكن على حساب حياة الموظفين وصحتهم واستقرارهم الأسري والنفسي، على الورق قد يعد ذلك عملاً استثنائياً ولكن في الواقع من الصعب اعتبار ذلك نجاحاً. وفي الختام، نجاح الإدارة ليس في تحقيق الأرقام القياسية في التقارير والعروض الرسمية، بل في تحقيقها بأسلوب صحيح ومتوازن بين تنفيذ المشاريع لمصلحة المنظمة وبين مراعاة ظروف الموظفين وتوفير بيئة عمل داعمة للنجاح في ظل احترام حياتهم وصحتهم، قد ينظر البعض لذلك كنوع من الرفاهية والمثالية في عالم التنظير، لكن هذا التوازن وهذه الإنسانية في القيادة هي الأساس لنجاح مستدام على المدى الطويل.