دخلتْ العاصمةُ الرياض اختباراً تنظيمياً غير مسبوق لسوق الإيجارات، وذلك بعد إيقافُ الزيادة السنوية لعقود الإيجار السكنية والتجارية داخل النطاق العمراني لمدة خمس سنوات، شاملةً العقود القائمة والجديدة، إذ كان جوهر الخطوة واضحًا؛ كبح تضخم الإيجارات واستعادة التوازن بين طرفَي العلاقة التعاقدية، عبر سقفٍ تنظيميٍّ صريح وقابلٍ للإنفاذ، لكنّ الزاوية الأكثر إثارة للنقاش، والتي ستمسّ سلوك السوق سريعاً، تتعلق تحديداً ب"الوحدات السكنية الجديدة": كيف ستُسعَّر، وهل تُجبرُ المُلّاك على مجاراة أسعار السوق الفعلية بعيداً عن التوقعات المتفائلة؟ وما الانعكاس المنتظر على الوحدات القائمة؟ قبل البحث عن أجوبة تجدر الإشارة إلى أنّ الأحكام الجديدة نصت على تثبيت الأجرة الإجمالية لعقود الإيجار الشاغرة التي سبق تأجيرها عند «آخر عقد» مسجّل، فيما تُحتسب أجرة العقارات التي لم يسبق تأجيرها باتفاق الطرفين ضمن الإطار النظامي الجديد؛ مع توثيقٍ إلزامي عبر منصة «إيجار»، وتجديدٍ تلقائي ما لم يُخطر أحد الطرفين الآخر قبل 60 يوماً، كما تقرر فرض غرامة تصل إلى ما يعادل أجرة 12 شهراً على المخالف، إضافة إلى تصحيح المخالفة وتعويض المتضرر، وهذه الركائز تمنح السوق مرجعيةً سعرية وتُقلّص مساحة المساومات المفاجئة التي غذّت التقلبات في السنوات الأخيرة. رهان الرفع السريع وبالنسبة للوحدات الجديدة تماماً والتي لم تُؤجّر من قبل، يظلّ السعر ثمرة اتفاقٍ بين المؤجر والمستأجر، لكنه اتفاقٌ محكوم -عملياً- بمناخٍ تنظيمي يُحيّد رهان «الرفع السريع» في الأعوام اللاحقة، ويجعل المالك منذ البداية مضطراً إلى طرح سعرٍ تنافسيٍّ يمكن الدفاع عنه طوال عمر العقد، في سوقٍ باتت تعرف أن الزيادات السنوية متوقفة لخمس سنوات، وهذا القيد وحده يعيد تعريف نقطة انطلاق التفاوض على الإيجار الأول للوحدة الجديدة. عملياً، يُغلِق القرار الباب أمام استراتيجيةٍ شائعة لدى بعض المُلّاك والمطوّرين، تتمثل في تسعيرٌ افتتاحي أعلى من مستوى السوق ثم التدرّج بالزيادات السنوية للحاق ب«توقعات العائد»، ومع تجميد الزيادات، يصبح التسعير الافتتاحي للوحدات الجديدة أكثر التصاقاً بمستوى السوق الفعلي، لأن أي مبالغة لا يمكن تصحيحها لاحقاً عبر زياداتٍ سنوية، والنتيجة المتوقعة ستكون اعتدال في أسعار الطروحات الجديدة، مما يُحدِث «شدّاً» تنافسياً نحو الأسفل على الوحدات المُدرجة حديثاً، وهذه الديناميكية تؤكدها دوافع المستثمرين أنفسهم، فاليقين التعاقدي يقلّل علاوة المخاطرة في التسعير، ويستبدلها بالمنافسة على الجودة والقيمة المضافة داخل سقفٍ سعري مفهوم، وهو ما عبّر عنه مختصون رأوا في التثبيت لخمسة أعوام إلغاء ل«مفاجآت السوق»، وتمكيناً للتخطيط الاستثماري والعائلي معاً. قاطرة إعادة التسعير ومما يزيد احتمالية السردية المشار إليها، ما أظهرته بيانات 2025م من أن السوق بدأ فعليًا يدخل طور التهدئة والتصحيح في عدد من أحياء الرياض، فقد سجّلت منصة «عقار» في مايو 2025م تراجعًا ملحوظًا في إيجارات الشقق بعدة أحياء، تصدّرها حيّ الازدهار بانخفاض -36.3%، ثم العُليا -26.4%، وبدر -26%، بينما شهدت أحياء مثل الندى والمونسية وحُطين زيادات طفيفة، ما يعكس تباينًا جغرافيًا طبيعيًا خلال مرحلة تصحيح تُعاد فيها مواضع الأسعار، بحسب جودة المنتج ومرونة الطلب، وهذا الاتجاه يعني أن أي وحدات جديدة تدخل هذه الأحياء ستكون مطالبةً -واقعيًا- بالتسعير داخل نطاق «السوق الفعلي» لا «السعر الطموح»؛ لأن المستأجر أصبح يرى بدائل أرخص أو أكثر توازنًا داخل الحي نفسه. وبيانات شهر يوليو 2025م جاءت مكمّلة لهذا المسار؛ إذ أظهر «المؤشر الإيجاري» على منصة سكني انخفاضًا في متوسط القيم الإيجارية للشقق في 32 حيًا من أحياء الرياض، بنسب تراوحت بين 1% و52% مقارنة بالشهر السابق، على عيّنة واسعة تجاوزت 18 ألف صفقة، وعمليًا، هذا النوع من التذبذب يُثبّت «مرجعية سعرية» محلية على مستوى الحي، ويزيد حساسية المستأجر تجاه فروقات السعر بين الجديد والقائم، وعند دخول الوحدات الجديدة ضمن بيئة كهذه -ومع تجميد الزيادات السنوية لخمس سنوات- فإنها تُجبِر الملاك على مجاراة الأسعار السائدة بدل الرهان على زيادات لاحقة؛ الأمر الذي يُطلق ضغطًا تنافسيًا ارتداديًا على الوحدات القائمة، ويدفعها إلى خفض أسعارها أو تحسين قيمتها حفاظًا على الإشغال. بهذا المعنى، لا تعمل القرارات التنظيمية في فراغ؛ فهي جاءت فوق منحنى بدأ يتسطّح فعلاً في بعض المواقع، والنتيجة المرجّحة -وفق هذه الإشارات المبكرة- أن التسعير الافتتاحي للوحدات الجديدة سيتجه إلى الاعتدال، اتساقًا مع مستويات الحيّ، فيما تُعيد الوحدات القائمة التموضع تبعًا لمعادلة «السعر/القيمة» الجديدة، ما يخلق دورة إعادة توازن تشمل الشريحتين معًا. كبح التضخم ولم يقتصر تأثير القرار الجديد على الساحة التشريعية فحسب، بل أثار أيضاً تفاعلات واسعة في أوساط الخبراء والمختصين الذين رأوا فيه خطوة تعالج جذور التضخم الإيجاري، وتفتح آفاقاً لتوازن أكبر في سوق العقار بالرياض، حيث أوضح أستاذ المالية والاستثمار بجامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور محمد مكني، في تصريحات إعلامية أن تثبيت الإيجار لمدة خمس سنوات مع إلزامية التوثيق عبر منصة «إيجار» يُعد حماية للطرفين، المؤجر والمستأجر، على حد سواء، مبيّنًا أنّ القرار يُزيل هذا الإجراء عنصر «المفاجأة» الذي اعتادت الأسر مواجهته عند تجديد العقود، وهو ما يمنحها قدرة أكبر على التخطيط المالي والادخار، أما المستثمرون، فيرون فيه وضوحاً يساعد على صياغة استراتيجيات استثمارية طويلة المدى بعيداً عن تقلبات غير محسوبة، معتبرًا أنّ هذه البيئة المنضبطة تفرغ جزءاً كبيراً من الضغوط التضخمية، التي غذّتها الزيادات المتكررة في الأعوام الماضية. كما أكد مراقبون على أنّ القرار يمثل نقطة تحول مهمة في مسار سوق الإيجار بالرياض، إذ سيكبح جماح التضخم ويعيد التوازن بين العرض والطلب، كما أنّ هذا الإطار التنظيمي سيحفز دخول وحدات سكنية جديدة إلى السوق، ما يعني زيادة في المعروض وبالتالي منافسة أقوى بين المشاريع، ومع دخول عروض إضافية، يرى مراقبون أن التنافس سينتقل من مجرد «رفع الأسعار» إلى تحسين الجودة وتقديم قيمة مضافة، وهو ما يصب مباشرة في مصلحة المستأجرين، خصوصاً في المشاريع الجديدة التي لم تعد تراهن على زيادات لاحقة في الأسعار. وكان رئيس الهيئة العامة للعقار المهندس عبدالله بن سعود الحمَّاد قد شدد على أن الأحكام الجديدة ليست مجرد «تجميد» للأسعار، بل هي خطوة تهدف إلى «ضبط الأسعار الإيجارية»، وتحقيق استقرار تعاقدي يضمن عدالة العلاقة بين الطرفين، ولفت إلى أن القرارات الجديدة تأتي في إطار إستراتيجية أوسع لتنظيم السوق العقارية، وأنها تعكس حرص القيادة على معالجة التحديات السكنية في العاصمة التي شهدت ارتفاعات حادة في الإيجارات خلال السنوات الأخيرة، ونوّه بأن التطبيق الصارم لهذه اللوائح سيمنع الممارسات غير العادلة، ويُعزز الشفافية عبر إلزامية توثيق العقود وإتاحة الاعتراض عليها، مؤكداً أن السوق العقارية في الرياض ستصبح أكثر انضباطاً وقابلية للتنبؤ، وهو ما يعزز جاذبيتها للاستثمار طويل الأجل. كيف تنتقل العدوى السعرية؟ ويرى مختصون أنّه إذا اعتدل تسعير الوحدات الجديدة عند الدخول، فسيكون على الملاك في المباني القائمة أن يُوازِنوا بين خيارَين: تثبيت أسعار مرتفعة مع خطر فقد المستأجرين لصالح مشاريع جديدة «أحدث وأرخص نسبياً»، أو إعادة تسعيرٍ مرن يحافظ على الإشغال، ولأن القرار أزال حافز رفع الأجرة سنوياً، يفقد ملاكُ القائمين ورقةً تفاوضية كانت تُستخدم لتبرير التمسك بسعرٍ أعلى مقابل «قابلية الزيادة»، مشيرين إلى أنّ النتيجة الطبيعية هي انتقال ضغطٍ تنافسي من شريحة الوحدات الجديدة إلى القائم، ما يدفع الأخيرة إلى خفض الأسعار أو تحسين القيمة المضافة (ترميم، خدمات، مزايا) للحفاظ على المستأجر، وبقدر ما يتوسع المعروض الجديد، تزداد قوة هذا الضغط. وتدعم هذه القراءة بيانات السوق، التي وثّقت فورة ارتفاعات في الإيجارات خلال السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات إلى أن إيجارات الفلل في الرياض ارتفعت 13.9% على أساس سنوي في الربع الثاني 2025م، وصعود أسعار الشقق منذ 2019 بنحو 82%، ما يجعل كبح المسار أمراً مرجّحاً عند دخول تنظيمٍ صارم للزيادات. وتعمل الأحكام الجديدة بمنطقٍ اقتصادي بسيط: ضبط سقف الزيادات يرفع كلفة «التسعير المتفائل» للوحدات الجديدة، لأن أي سعرٍ زائد لن يجد طريقاً للتصحيح لاحقاً، وبالتالي يتجه المالك منذ البداية إلى تسعيرٍ يمكن الدفاع عنه عند المقارنة مع وحدات مشابهة في الحي نفسه، والأهم أن تسجيل العقود وإتاحة الاعتراض خلال مهلةٍ محددة يرفعان الشفافية ويُنشئان مرجعيةً قابلة للمقارنة تُحبط مبالغاتٍ غير مسنودة ببيانات، وهنا يصبح «السعر السوقي الأخير» معياراً عملياً يُملي على الوحدات الجديدة مجاراته أو الاقتراب منه، وهو ما يغيّر سلوك كبار وصغار المُلّاك معاً. من جهة العرض، تُظهر تقارير شركات الأبحاث العقارية تنامياً مستمراً في ضخ الوحدات السكنية بالرياض، ما يعني أن «نافذة الاختيار» لدى المستأجر تتسع، فكل دفعةٍ من الشقق الجديدة تدخل بسعرٍ افتتاحي أكثر عقلانية ضمن بيئة بلا زيادات خمسية، وستزيد من حساسية المستأجرين لأي فروقات سعرية لصالح الجديد، فتنعكس عبر مفاوضات التجديد على العقود القائمة، وعندما يفضّل المستأجر «التجديد الأرخص» أو «الانتقال للأجدد بنفس الميزانية»، يبدأ ملاك القائمين بإعادة التسعير حفاظاً على الإشغال، ولا شك أنّ ترجيح تسارع هذا الانتقال يتعزز بقراءة الإمدادات المتوقعة، التي تتحدث عن آلاف الوحدات الجديدة المضافة في الرياض خلال 2025م، بحسب تقارير متخصصة. تجميد حرية التسعير ومن المهم الفصل بين «تثبيت الزيادة السنوية» و«تجميد حرية التسعير»؛ فالنظام لا يتدخل في تحديد سعر الوحدات التي تُطرح لأول مرة بقدر ما يضع سقفاً لمسارها اللاحق، وهذه النقطة ركّز عليها مختصون حين شددوا على أنّ الهدف هو كبح الارتفاعات غير المبررة لا فرض أسعارٍ إدارية، وعملياً، يُبقي القرار على حيوية المنافسة، لكنه يُحوّلها من لعبة «من يرفع أكثر» إلى لعبة «من يقدّم قيمةً أعلى عند سعرٍ معقول»، وهو ما يلامس مصلحة المستأجرين مباشرةً، ويُحفّز المطوِّرين على تحسين الجودة والمواصفات، لا سيما مع ارتفاع وعي السوق وقدرته على المقارنة داخل أحياءٍ متجاورة. وعندما تعرف الشريحة الأوسع من المستأجرين أن أي زيادةٍ سنوية مجمّدة لخمس سنوات، تتغيّر مفاوضات التجديد جذرياً، فالمستأجر الذي يواجه سعراً مرتفعاً في وحدةٍ قديمة يجد أمامه بدائل جديدة، تُقدّم مواصفات أحدث ضمن سعرٍ ابتدائي محسوب، وهنا يقدّم القرار، عملياً، «رافعة تفاوض» للمستأجرين: إما تحسين القيمة أو خفض السعر في غياب الزيادات السنوية، ليصبح الحفاظ على الإشغال أولويةً أعلى لدى المالك من التمسك بسعرٍ مبالغ فيه، خاصة إذا كان العقار بحاجة إلى صيانة أو تحديث، وتقرأ شركات الأبحاث هذا التحول بوصفه آليةً طبيعية لإعادة تسعير السوق نحو نطاقٍ متوازن بعد موجة ارتفاعاتٍ سريعة. رسائل ضبطٍ وثقة ولا يقتصر أثر الأحكام على السلوك السعري؛ فالتوثيق الإلزامي، وإتاحة الاعتراض، وتجديد العقود تلقائياً ما لم يُبلّغ أحد الطرفين قبل 60 يوماً، كلها تبعث رسائل «ثقة تعاقدية» تحمي حقوق المستأجر وتطمئن المستثمر المؤجر في الوقت ذاته، والأهم أن وجود عقوباتٍ واضحة على المخالفات -حتى سقف يعادل إيجار 12 شهراً- يعطي للنصّ «أسناناً تنفيذية» تمنع التحايل وتكبح النزاعات، وهذه العناصر التنظيمية هي التي جعلت مختصين يصفون الخطوة بأنها تنقل السوق إلى درجةٍ أعلى من الانضباط والشفافية، وتعزّز جاذبية الاستثمار طويل الأجل المبني على جودة الأصل لا على رهانات «زيادة الإيجار». وتاريخياً، صعدت إيجارات الرياض بقوةٍ منذ 2019 مدفوعةً بتسارع الطلب والاستثمار، ما ولّد فجوةً بين قدرات الأسر وتسارع الأسعار، ورفع توقّعات المُلّاك تجاه معدلات العائد الضرورية، اليوم، وبحسب تقديرات مؤسسات بحثية دولية، سجّلت الإيجارات السنوية للفلل زيادةً تقترب من 14% على أساس سنوي في الربع الثاني 2025م، وارتفاعات تراكمية كبيرة لأسعار الشقق منذ 2019م؛ وهي خلفية تفسّر لماذا ترى أطرافٌ كثيرة أن تثبيت الزيادات لخمسة أعوام سيكون له أثرٌ مُهدّئ على التضخم الإيجاري، ومع اتساع الإمدادات الجديدة المتوقعة، ترتفع احتمالات انتقال هذا الأثر من «كبح الارتفاع» إلى «ضغطٍ تنافسيٍّ» على القائم مع الوقت لا عبر قرارٍ مباشر بخفض الأسعار، بل عبر آلية السوق ذاتها حين تتوالى البدائل وتشتدّ المقارنة.