شاركت خلال هذا الأسبوع في حلقة من بودكاست "ترند" الذي تناول حديثي المتكرر عن خطورة ظاهرة مشاهير التواصل الاجتماعي، وجرأتي باعتبار أن المجتمع لدينا تحوّل -بغالبية عظمى- إلى مجتمع تافه، تصدّر فيه التافهون صدر المجالس والدعوات الرسمية لجهات مرموقة وبكل أسف!! لم تكن هذه الملاحظات وليدة اللحظة، فقد كتبت في عام 2001 مقالًا بعنوان "تهريج بصوت عالٍ" حذّرت فيه من خطورة تقديم الضجيج على المضمون، واعتبرت أن الاستسهال الإعلامي سيقودنا إلى مرحلة يهيمن فيها الهزل على الذائقة، وما نراه اليوم عبر منصات التواصل الاجتماعي من استعراض للمظاهر والتباهي بالهدايا الكاذبة أو السيارات المستعارة، ليس إلا امتدادًا لذلك التهريج الذي نبهت إليه مبكرًا ومعي الكثير من الكتاب. الهيئة العامة لتنظيم الإعلام وضعت مؤخرًا ضوابط دقيقة للمحتوى، تشمل منع التباهي بالممتلكات، وحظر استغلال الأطفال والعمالة المنزلية، والتشدد تجاه التنمر واللغة المبتذلة، إضافة إلى ضبط سوق الإعلانات الرقمية الذي تجاوز حجمه مليارات الريالات، هذه الخطوة تعكس جدية الدولة في حماية الذوق العام وإعادة الثقة المفقودة بين المعلنين والجمهور، بعدما أصبح كثير من الشركات يتحفظ على التعاون مع مشاهير "الترند" خوفًا من ارتباط أسمائها بفضائح أو محتوى سطحي! ولكن في ظل تسليط الإعلام الدولي علينا، هل يمكن أن تُفهم هذه السياسات ككبح للحريات الإعلامية؟ والإجابة بسهولة تقول إن التجارب الدولية تقول العكس، بريطانيا أقرت قانون السلامة على الإنترنت عام 2023، مانحة هيئة تنظيم الاتصالات والبريد سلطة فرض غرامات تصل إلى اكثر من 90 مليون ريال سعودي أو 10 % من الإيرادات العالمية على المنصات المخالفة، الاتحاد الأوروبي اعتمد قانون الخدمات الرقمية بغرامات تصل إلى 6 % من الإيرادات، بينما سبقت فرنسا الجميع بإقرار قانون يحمي "الأطفال المؤثرين" ويعاقب المخالفين بغرامات تصل إلى أكثر من 300 ألف ريال، وسجن في بعض الحالات، هذه النماذج تؤكد أن ضبط التفاهة ليس تضييقًا، بل توجه عالمي لحماية المجتمعات من محتوى خطير! يتسبب انفلات هذا المحتوى بآثار اجتماعية كالضغوط النفسية على الشباب، وارتفاع الخلافات الأسرية بسبب المقارنات الوهمية، وأحياناً يصل الأمر لارتفاع معدلات الطلاق، أما اقتصاديًا، تسببت ثقافة المظاهر الكاذبة بوجود سلوك استهلاكي غير صحي، يخلق فجوة بين الواقع والخيال، ويزيد من أعباء الأسر. لذلك وبلغة التفاؤل أمام السياسات التي تم الإعلان عنها، نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة، هي مرحلة تنظيم القطاع الإعلامي ليكون صناعة حقيقية توازي أهم القطاعات الاقتصادية، فالرهان لم يعد على عدد المتابعين أو السباق نحو الترند، بل على جودة المحتوى ومهنيته، وعلى بناء إعلام يحمي المجتمع ويضيف للاقتصاد، لا أن يكون أداة لتفكيك الأسرة وصناعة الوهم، فشكراً لمعالي وزير الإعلام وهو الخبير بالشأن الإعلامي كابن للمهنة على هذه الجرأة في إيجاد سياسات إذا طبقت وبصوت عالٍ ستسهم في إعادة توازن جميع مناحي حياتنا، بعد أن سرقها التافهون!