يُعد اليوم العالمي للتطوع، الذي أقرّته الأممالمتحدة منذ عام 1985، مناسبةً سنوية للاحتفاء بالعطاء الإنساني، وإبراز الدور الجوهري الذي يؤديه المتطوعون في بناء المجتمعات وتنميتها؛ ففي الخامس من ديسمبر من كل عام، تتجه أنظار العالم إلى ملايين الأيادي البيضاء التي تعمل بصمت من أجل الآخرين، وإلى القلوب المؤمنة بأن العطاء قيمة لا تُشترى، وأن التطوع مسؤولية قبل أن يكون مبادرة. إن العمل التطوعي ليس حدثاً عابراً أو عملاً موسمياً، بل هو ثقافة وسلوك حياة، يعكس مدى وعي الإنسان بدوره تجاه مجتمعه ووطنه والإنسانية جمعاء؛ ومن هنا، يصبح التطوع وسيلة لبناء الشخصية وتعزيز الانتماء وتنمية روح المسؤولية الجماعية، فهو يُسهم في تطوير الذات وصقل المهارات، ويمنح الفرد شعوراً بالرضا والانتماء والعطاء؛ وعندما يتحول التطوع إلى ممارسة دائمة، يصبح الإنسان جزءاً من الحلول لا من المشكلات، ويسهم في تحقيق التوازن بين متطلبات الحياة الفردية واحتياجات المجتمع. وقد شكلت الحركة الكشفية منذ نشأتها عام 1907م على يد اللورد بادن باول، أحد أهم الميادين التي غُرست فيها قيم التطوع والخدمة العامة؛ فهي ليست مجرد نشاط شبابي، بل منظومة تربوية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان المتوازن روحاً وخلقاً وجسداً، وتضم اليوم ما يزيد على 57 مليون كشاف في 176 دولة حول العالم، يتعلمون من خلالها فنون القيادة وروح الفريق، ويعيشون قيم العطاء ونكران الذات في كل ما يقدمونه لمجتمعاتهم؛ ومن خلال منهجها القائم على التعليم بالممارسة، جعلت الكشفية من التطوع أسلوب حياة وممارسة يومية تعزز التعاون والتكافل وتغرس في النفوس حب الخير وخدمة الآخرين. وفي المملكة العربية السعودية، تميزت الكشافة السعودية بمكانة رائدة في العمل التطوعي، حيث أسهمت عبر عقود طويلة في خدمة المجتمع في مجالات متعددة، أبرزها خدمة الحجاج والمعتمرين، والمبادرات البيئية، والاجتماعية والإنسانية؛ وقد وجدت هذه الجهود دعماً كبيراً من القيادة الرشيدة –أيدها الله- التي جعلت من العمل التطوعي محوراً مهماً في رؤية المملكة 2030، إدراكاً منها لأثر التطوع في تعزيز التلاحم الوطني وتحقيق التنمية المستدامة؛ ومن أبرز صور هذا الإسهام مبادرة "رسل السلام" التي انطلقت من المملكة لتصل إلى أرجاء العالم، حاملةً رسالة المملكة في نشر قيم السلام والتسامح، وتعزيز ثقافة الحوار والعمل التطوعي بين الشباب؛ وتستهدف المبادرة تمكين الفتية والشباب من إطلاق مشروعات ومبادرات تسهم في خدمة مجتمعاتهم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة محلياً وعالمياً، ليكونوا بحق رسلاً للسلام والخير. ولأن الحركة الكشفية تقوم على منظومة أخلاقية راسخة، فإن مبادئها الثلاثة تمثل جوهر رسالتها التربوية: الواجب نحو الله الذي يقوم على التمسك بالقيم الدينية والروحية وما تدعو إليه من فضائل، والواجب نحو الآخرين الذي يعني الإخلاص للوطن وخدمة المجتمع وبذل الجهد في سبيل التنمية، والواجب نحو الذات الذي يدعو إلى تنمية القدرات الشخصية وتحمل المسؤولية في تطوير الذات فكرياً وجسدياً وروحياً؛ وهذه المبادئ الثلاثة تشكل قاعدة متينة لبناء شخصية متوازنة قادرة على العطاء، وتجعل من الكشاف نموذجاً للإنسان الفاعل في مجتمعه، الملتزم بقيم الخير والإنسانية. إن العمل التطوعي في جوهره ممارسة إنسانية تعزز الانتماء وتقوي الروابط بين أفراد المجتمع، وتغرس في الناشئة القيم الإيجابية وحب الخير وخدمة الآخرين؛ ومن خلال الأنشطة الكشفية المتنوعة، يتعلم الفتية والشباب أن يكونوا أعضاء فاعلين ومسؤولين في مجتمعاتهم، وأن يسعوا لإحداث التغيير الإيجابي بجهدهم وفكرهم ووقتهم، وهو ما يجعل من الحركة الكشفية مصنعاً للقيم الإنسانية ومدرسةً للسلوك الاجتماعي المسؤول؛ ولعل أجمل ما يميز التطوع الكشفي أنه لا يتوقف عند حدود المساعدة، بل يتجاوزها إلى بناء الشخصية وصناعة القادة الذين يملكون الإصرار على المبادرة وحل المشكلات والمشاركة في صنع مستقبل أفضل. واليوم، ومع ما يشهده العالم من تحديات متزايدة، يثبت المتطوعون – والكشافة في طليعتهم – أنهم طاقة لا تنضب في مواجهة الأزمات، وأن روح العطاء قادرة على تجاوز كل العقبات. فالتطوع هو لغة عالمية يفهمها كل من آمن بأن الخير طريق للسلام، وأن السلام ثمرة للعطاء؛ ومن هنا تأتي أهمية أن نعمل جميعاً على تحويل ثقافة التطوع إلى سلوك يومي راسخ، وأن نستثمر في الأجيال الجديدة لترسيخ هذا المفهوم في نفوسهم، ليكون التطوع جزءاً من هويتهم وممارسة طبيعية في حياتهم. وفي اليوم العالمي للتطوع، تتجدد الدعوة لأن نجعل من التطوع نهجاً للحياة، ومن الكشافة منارةً دائمة لهذا النهج الإنساني النبيل، فهم بحق رسل سلام، وسفراء عطاء، فبالعمل المشترك نبني الأوطان، وبالروح التطوعية نرسم ملامح مستقبل أكثر إنسانية وسلاماً. *نائب رئيس جمعية الكشافة العربية السعودية