في ساحة العلم، كانت له صولة وجولة، وفي محراب الفتوى، كان له صوت الحكمة والاعتدال، ليس يوماً عادياً ذاك الذي أُعلن فيه رحيل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ؛ بل هو يوم فقدت فيه الأمة الإسلامية قامة شامخة، وعالماً نادراً، كانت حياته كلها وقفاً على العلم والعمل، وخدمة الدين والمسلمين. لم تكن مكانة الشيخ التي تبوأها وليدة الصدفة، بل كانت ثمرة رحلة طويلة من الجهد والإخلاص، بدأت منذ نعومة أظافره، حين احتضنه العلم والعلماء، وارتشف من ينابيع المعرفة الصافية، فقد كان فقيهاً واسع الأفق، لا يضيق ذرعاً بالمسائل، ولا يرهبه الخلاف، بل يواجه كل ما استجد من نوازل بروح الاعتدال والإنصاف، مستنداً إلى قوة الحجة ودقة الاستدلال، ليقدم للأمة فتوى تحترم الواقع، وتستلهم روح الشريعة. تجاوز تأثير سماحته حدود وطنه، فقد كان صوته يصل إلى أقطاب الأرض، عبر منبر المسجد الحرام، حيث خطب في يوم عرفة لأكثر من ثلاثة عقود، ليكون لسان الأمة، وهاديها في أهم مشعر من المشاعر المقدسة، لم يكن يخطب من منصبه، بل من قلبه، لتصل كلماته إلى ملايين القلوب، وتزرع في النفوس بذور التسامح والرحمة. واليوم، بينما يوارى الثرى، نقول وداعاً لقامة العلم والحكمة، لكن الأثر لا يموت. فما تركه الشيخ من علم وفكر وفتاوى، وما غرسه في قلوب تلاميذه ومحبيه، هو إرث خالد سيبقى منارة للأجيال القادمة، فمكتبة النور باقية، وذكراه حية. لقد رحل الجسد، لكن الروح بقيت، وبقي الأثر الطيب، والذكر الحسن، ومسيرة رجل أضاء طريق الحقيقة بنور علمه وسداد رأيه. وفي رياض العلم والإيمان، وعلى مقربة من أطهر البقاع، مكةالمكرمة، أشرقت شمس ميلاده في عام 1362ه (1943م). وفي سنّ مبكرة، انتقل والده إلى جوار ربه، فاحتضنته أمٌّ صالحة كانت سنده الأول، ومصدر قوّته الذي لا ينضب. وفي سنّ الخامسة عشرة، أضاءت بصيرته حين انطفأ نور عينيه، فكان هذا الابتلاء منعطفاً عظيماً في مسيرته، دفعه إلى التعمق في حفظ كتاب الله، وطلب العلم الشرعي من منابعة الأصيلة. وتلقّى سماحته العلم عن قامات شامخة، فارتشف من ينابيع الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وتتلمذ على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز، ونهل من فقه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فكانت نشأته في هذه البيئة العلمية الخصبة هي الأساس المتين الذي بنى عليه شخصيته وفقهه، وجعل منه القامة التي عرفتها الأمة.