حين يطوي الموظف صفحة عمله الأخير، ويتسلم قرار تقاعده، يخيّل إليه أنه يعبر جسرًا نحو حياة أكثر هدوءًا وطمأنينة، يتخيل صباحاته المقبلة بلا منبهٍ يوقظه، ولا مسؤوليات تثقل كاهله، ويظن أن سنواته المقبلة ستكون وقتًا لجني ثمار عمرٍ قضاه في خدمة وطنه وأسَرته، غير أن تلك الأحلام كثيرًا ما تصطدم بجدار الواقع، لتنكشف أمامه حقيقة صامتة تتسلل ببطء، حقيقة لا تُرى لكنها تُشعره يومًا بعد يوم أن دخله يتآكل مثل شمعة تذوب ببطء، حتى يخشى أن تنطفئ قبل أن تكمل آخر مسيرتها. هذه الأزمة الخفية تُعرف اقتصاديًا ب"تآكل الدخل" فالمعاش التقاعدي يبقى ثابتًا بينما ترتفع تكاليف المعيشة بفعل التضخم، ما يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية عامًا بعد عام. فعلى سبيل المثال، إذا كان معاش متقاعد 10 آلاف ريال ومعدل التضخم السنوي 3 %، فإن قيمته الحقيقية بعد عشر سنوات ستنخفض إلى نحو 7,441 ريالًا فقط، أي أن المتقاعد يفقد ما يقارب 2,559 ريالًا من قوته الشرائية، بما يعادل ربع دخله تقريبًا، رغم أن المبلغ الاسمي لم يتغير. هذه المشكلة ليست محلية فحسب، بل عالمية، فقد واجهتها دول عديدة ونجحت في معالجتها عبر آليات اقتصادية واضحة، فبعض الدول، مثل كندا والسويد، تطبق ما يُعرف ب"الفهرسة" أو Indexation، حيث يتم ربط المعاشات التقاعدية بمؤشر التضخم أو تكلفة المعيشة، ما يحافظ على القوة الشرائية للمتقاعدين مع مرور الوقت، بينما اعتمدت دول أخرى، مثل أستراليا، على مزيج من المعاشات الحكومية والبرامج الادخارية الخاصة التي يشارك فيها الموظف وأصحاب العمل طوال سنوات الخدمة، مما يوفر دخلاً متنوعًا يحد من صدمة التقاعد. اقتصاديًا، لا يقتصر أثر أزمة تآكل دخل المتقاعدين على الأفراد، بل يمتد إلى المجتمع ككل، فضعف دخل هذه الشريحة يقلل إنفاقها، ما ينعكس على الطلب المحلي، كما يضطر الأبناء إلى تحمل أعباء إضافية لدعم والديهم، وهو ما يحد من قدرتهم على الادخار والاستثمار. معالجة هذه الأزمة تتطلب إصلاح نظام التقاعد ليتواكب مع التضخم، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في ربط المعاشات بمؤشرات الأسعار، فالمتقاعد الذي خدم وطنه لعقود يستحق أن يعيش سنواته الأخيرة بكرامة واستقرار، لا أن يقضيها في قلق دائم على دخله ونفقاته.