«ذلك المنحدر الذي حطم فيك كل شيء ستشكره يومًا ما» كلمات نيتشه تصوير شعري للمحن وهي كذلك كشف لسرّ وجودي دفين يقول إن ما يهدمنا اليوم قد يكون المعمار الصامت لغد أكثر صلابة. نيتشه الفيلسوف الذي رأى في الألم أداة لصياغة العظمة يضعنا اليوم أمام مفارقة أخرى لم نعهدها إذ كيف يمكن لما يدمرنا أن يجعلنا نشكره ونقف له إجلالاً!! المنحدر في لغة نيتشه ليس جغرافياً فحسب بل هو صورة مكثفة للحظات الانهيار الداخلي، حيث يتساقط يقيننا كما تتدحرج الصخور في هوّة سحيقة، وهنا تنفصل فيها الذات عن شكلها القديم لتقف أمام خواء مطلق لا يسترها إلا وعيها العاري. هناك في تلك العزلة الموحشة تنطفئ الأصوات المألوفة وتنكشف لنا الطبيعة الحقيقية لذواتنا سرّ المنحدر أنه لا يكتفي بالهدم فحسب، بل تعداه ليجبرك على إعادة ترتيب وجودك في كل ضربة تتلقاها فتكشف عن طبقة جديدة من الإرادة ومع كل شقّ في روحك يفتح نافذة على اتساع أكبر للعالم. الألم يمنحك امتيازًا لم تكن لتدركه في أوقات الراحة ويعطيك فرصة جديدة أن تصنع نفسك من جديد بمعدن صقلته النيران. الشكر الذي نتحدث عنه هنا وعي مكتمل بحقيقة النضج الإنساني فأنت لا تشكر المنحدر لأنه آلمك بل لأنك بفضله تجاوزت ذاتك الأولى، وتلك النسخة التي كانت تعيش على استقرار زائف، فتعلمت أن الثبات لا يُختبر في أرض مستوية، بل على الحواف التي تهدد بسقوطك في كل لحظة. الانحدار بداية التحول هنا وهو قانون الحياة الأسمى حيث تموت أشكالك القديمة لتولد أشكال أرقى لا تعرف معنى النجاة إلا بعد أن تختبر عمق الهاوية. وحين يأتي اليوم الذي تلتفت فيه إلى الوراء سترى أن كل ما تحطم فيك لم يكن في الحقيقة سوى قشور تحجب عنك جوهر قوتك وستدرك أن الجراح التي نزفت منها لم تكن لعنتك بل توقيع القدر على وثيقة عبورك نحو إنسان مختلف وعندها فقط سيتحول الحزن القديم إلى امتنان والصدمة إلى ذكرى ذهبية والخوف إلى ابتسامة غامضة تحمل سرًا لا يعرفه إلا من نجا. ذلك الشكر إعلان انتصار حين استطعت أن تجعل من الحطام معبرًا ومن المنحدر سلّمًا ومن الانكسار أداة لصياغة ذات لا تُهزم وحين تشكر المنحدر فأنت في الحقيقة تشكر نفسك لأنك اخترت أن تحيا بعد أن كان كل شيء فيك يصر على الموت. ختاماً.. هكذا تصبح مقولة نيتشه خارطة سرية للعبور لنرى من خلالها أن الانهيار فرصة وأن السقوط دعوة، وفي النهاية بداية جديدة فيصبح أعظم أعدائنا ذات يوم أعظم معلمينا.