أمراء ومسؤولون يؤدون صلاة الميت على مشعل بن عبدالله    مملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات.. شركة لبناء وتشغيل مرافق إكسبو الرياض 2030    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تكريم المنشآت الفائزة بجائزة الملك عبدالعزيز للجودة    مطار الملك فهد يحصد المركز الأول في"الأداء التشغيلي"    "جوجل" تطلق ميزة البحث الصوتي التفاعلي    وفد يلتقي أعضاء لجنة الصداقة البرلمانية الفرنسية – الخليجية.. رئيس الشورى ومسؤول إيطالي يناقشان التعاون البرلماني    عبدالعزيز بن طلال يتسلم جائزة عربية    في ثاني مواجهاته بكأس العالم للأندية.. الهلال يبحث عن الفوز أمام سالزبورغ .. والريال يواجه باتشوكا    البرازيل تطلب استضافة مونديال الأندية 2029    "جالينو" يقترب من مغادرة الأهلي    الإطاحة بمروج مواد مخدرة بمنطقة الجوف    المرور: ترك المركبة في وضع التشغيل عند مغادرتها يعد مخالفة    10 أيام تفصلنا عن بدء تطبيق "تصريح التوصيل المنزلي"    "الإلكترونية" تسجل حضوراً بارزاً في تصنيف "التايمز 2025".. الجامعات السعودية تتميز عالمياً    سوق البحر الأحمر يمدد فترة التقديم للمشاريع السينمائية    «التراث»: إطلاق حملة «عادت» لتعزيز الوعي بأهمية الآثار    6 رحلات يومية لنقل الحجاج الإيرانيين من جدة إلى عرعر    شاشات ذكية ب 23 لغة لإرشاد الزوار في المدينة المنورة    "التخصصي" يستعرض ريادته في مؤتمر دولي.. الفياض: السعودية رائدة في قطاع التقنية الحيوية والطب الدقيق عالمياً    "100 براند سعودي" يجذب الأنظار في لندن    "معمل تطوير كتّاب السيناريو" يخرج الطلبة ويعلن القادم    الرئيس المصري يُجري اتصالًا هاتفيًا بالرئيس الإيراني    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على مشعل بن عبدالله بن فرحان    عصام جنيد: الحجاز مهد الغناء العربي    روبوت عسكري بحجم بعوضة    %99 استقرار أسر مستفيدي زواج جمعية رعاية    جازان تودع الشاعر والأديب موسى بن يحيى محرق    أسرار جديدة بمدينة إيمت    عواقب التخلي عن الدهون الحيوانية    اختبار منزلي يقيّم صحتك    ما يسعدك قد لا يسعد غيرك.. أبحاث جديدة تدحض وصفة السعادة العامة    إنتر ميلان ينجو بصعوبة من فخ أوراوا    الأخضر يواجه ترينداد وتوباغو ب«أكثر من فرصة»    رينارد: نتطلع لتحقيق هدفنا    دورتموند يتخطى صن داونز بصعوبة    وزير الطاقة: موثوقية تحالف أوبك+ ترسم استقرار الأسواق    شركات طيران تعلق رحلاتها بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران    المملكة تجدد دعوتها لوقف إطلاق النار في غزة    سبات الإجازة وتحدي الاختبارات    ضبط 12066 مخالفًا للإقامة والعمل خلال أسبوع    أمير جازان يبحث المشروعات التنموية والسياحية في فرسان    مصانع لإنتاج أسمدة عضوية من مخلفات النخيل    انطلاق فعاليات منتدى الصناعة السعودي    75% من الغرف الفندقية بمكة المكرمة    تحت رعاية الملك.. نائب أمير الرياض يحضر تكريم الفائزين بجائزة الملك عبدالعزيز للجودة    إنزاغي يكشف عن 3 غيابات في الهلال أمام سالزبورغ    نائب أمير الشرقية يعزي العطيشان    بعثة حج الجمعيات الأهلية المصرية : نشكر السعودية علي ما وفرته لراحة ضيوف الرحمن من المصريين وتيسير مهمتنا    توزيع هدية خادم الحرمين على الحجاج المغادرين عبر منفذ عرعر    هل تموت الكلمات؟    الجبهة الداخلية    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على صاحب السمو الأمير مشعل بن عبدالله بن فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود    احتفل دون إيذاء    دبلوماسية الطاولة العائلية    أمطار وزخات برد على جازان وعسير وتحذيرات من الغبار بالشرقية والرياض    الأنيميا المنجلية.. ألم يولد مع الإنسان ومسؤولية العالم تتجدد    أمير منطقة جازان ونائبه يزوران شيخ شمل محافظة جزر فرسان    تسمية إحدى حدائق الرياض باسم عبدالله النعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيتشه: حوار الفكر والشعر
نشر في الرياض يوم 24 - 04 - 2008

سأبدأ هذه المقالة بطرفة فلسفية تليق بمقام نيتشه الذي كان يحب السخرية من كل شيء ومن كل أحد ويعدها "حكمة العالم". الطرفة تدور حول مقولة "الحقيقة" التي طالما بحث عنها الفلاسفة واختلفوا حولها. فقديما اعتقد أفلاطون وجماعة المثاليين معه أن الحقائق الكبرى كلها توجد في السماء، فذهب أرسطو إلى أنها تعيش مع البشر على الأرض. وبمجرد أن أكد ديكارت في عصر النهضة أن الحقيقة في الرأس حيث يعمل العقل، جاء روسو وجماعة الرومانسيين في القرن الثامن عشر ليعلنوا أن القلب هو الموطن الحقيقي لها. وفي القرن التاسع عشر قال ماركس أنها في البطن فرد عليه فرويد أنها أسفل البطن. وحاول أنشتاين أن يحل المعضلة فقال إن الحقيقة نسبية دائما من منظور العلم الفيزيائي الدقيق، لكن نيتشه ظل يلح على أن كل الحقائق مجرد أوهام نسي الناس أنها كانت كذلك ذات يوم بعيد!.
هذه الطرفة قد تروى بصيغ متنوعة، كالحكاية الشعبية تماما، لكنها مضمونها العام يظل ثابتا وهذا هو المهم. فالبحث عن الحقيقة قديم متصل. والذين يبحثون عنها هم الحكماء من المفكرين والعلماء الذين يحبون المعرفة بقدر ما يغرق الشخص العادي في شؤون حياته اليومية. لكن الحقيقة تظل كلمة حمالة وجوه، ولذا ما إن يصيح أحدهم "وجدتها" حتى يسمع أصواتا أخرى تشكك في الأمر، وكأن الانشغال الدائم بالبحث عن الشيء ذاته يؤدي إلى تشتته أو حتى إلى فقده بكل بساطة. وإذا كان هناك ما يميز الفكر في العصر الحديث، وفي مجمل خطاباته، فهو هذه المفارقة الكبرى التي تتمثل في الوعي بكثرة الحقائق التي يسميها أو يكتشفها أو يختلقها الباحثون يوميا، وفي كل المجالات، والوعي أيضا، وفي اللحظة ذاتها، بأن كل الحقائق سريعا ما تبدو قليلة هشة أمام مجهولات العالم والكون. إنه إذن عصر القلق والشك. ولعل نيتشه من أهم الفلاسفة الذين أدركوا هذه المعضلة وأصروا على تأملها والتآلف معها لأن حسمها لم يعد ممكنا لا من قبل الفكر الفلسفي ولا من قبل العلوم الدقيقة. وحين يوصف بأنه فيلسوف عدمي لا تستغرق الصفة من الذات والخطاب سوى ما يطل على السطح من المعنى. فهذا المفكر التراجيدي الكبير ينتمي لسلالة غريبة نسبيا عن السياق الغربي، سلالة تحتفي بحرية الفكر ولا تثق كثيرا في عقل الكائن البشري بمجرد أن يدعي القدرة على إدراك الحقيقة والتعبير عنها بدقة ووضوح، قولا أو كتابة. فالشك عنده ليس مرحلة فكرية أو خطوة منهاجية تفضي إلى الحقيقة، كما عند ديوجين أو ديكارت، بل هو مبدأ أصلي متصل يفترض أن يحترم ويؤنسن بمعنى ما. ومن يشك ويتشاءم ليس عدميا أو يائسا بالضرورة، لأنه قد يكون الأقرب إلى الواقع والأكثر قدرة على تفهم التباسات البشر، ولن يفاجأ أبدا بحماقاتهم حين يفتك أحدهم بالآخر باسم مباديء الحق والخير والعدل ذاتها. نعم، لم يكن نيتشه فيلسوفا أكاديميا محترفا بالمعنى السائد من قبله ومن بعده، ومع ذلك، وربما بفضله، "تمكن من هدم عمارة الفكر الغربي العريق بهزة كتف" كما قال عنه تلميذه ونظيره الفرنسي الأهم ميشيل فوكو. وهنا أيضا تنتفي مقولة العدمية من وجه آخر لأنه باشر هدم الفكر المعتبر، أو المهيمن، من أجل التأسيس للغة فلسفية جديدة مختلفة تخصه بقدر ما تفتح الخطاب على أفق كان غائبا أو مغيبا في السابق. ففي كل نصوصه سنجد المفاهيم والمصطلحات والمقولات تتوارى خلف شبكة كثيفة من الاستعارات والتشبيهات والكنايات أي أننا أمام لغة مجازية تحتفي بالصور المبتكرة الخلاقة، وهذه هي لغة الشعر بامتياز. ثم إن التراكيب الإنشائية- النحوية عنده تنزع دائما إلى الاختزال والتكثيف كي تستقل كل عبارة بقوامها النحوي ودلالاتها الفكرية. هنا تحديدا نطل على مرجعات بعيدة متنوعة لهذه اللغة الشعريه التي تترجم عن العواطف والمشاعر فيما هي تستحضر الفكر وتعلنه مشعا وملتبسا في الوقت ذاته. فأسلوب الشذرات المكثفة واللمع الخاطفة سنجده ظاهرة بارزة في أساليب القول والكتابة الخاصة ببعض الشعراء المتصوفة الذين يؤمنون بمبدأ "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وعند حكماء الهند والصين وفارس، ولدى شعراء الهايكو في جزر الشمس المشرقة (اليابان). وليس غريبا أن يتخذ نيتشه شخصية "زرادشت" قناعا وقرينا لواحد من أهم كتبه التي مارس من خلالها لعبة الهدم الساخرة المرحة للعقلانية الغربية القديمة والحديثة، وقبل جاك دريدا بعقود، ونعني كتابه (هكذا تكلم زرادشت). هناك وهم آخر شاع عن هذا المفكر ويتعلق بعدائه للدين وإعلانه "موت الأله". فالحقيقة أن نيتشه كان خصما عنيدا للمسيحية الكنسية الطغيانية التي تنكرت لمبادئي المسيحية الأولى، وادعى ممثلوها حق تمثيل الحقيقة المقدسة دون غيرهم، وبرروا مختلف أشكال الاستعمار منذ فتح أمريكا إلى فتك أمريكا بعالم اليوم. فالأمر يتعلق بلعبة دنيوية بشرية تستعمل، وتستغل، مشاعر التدين الشعبي لخدمة فئات وطبقات متنفذة لم تكن تؤمن في الواقع بغير مصالحها الخاصة. بل إن كتاباته عن الحروب الصليبية كانت مبادرة شجاعة لكشف جذور هذه اللعبة المتصلة، اما المسيح ذاته فقد مثل عنده شخصية تراجيدية ظل يجلها طوال حياته. ولعل الخلاصة الأهم التي توصل إليها هذا المفكر القلق المشائم المريض جسدا ونفسا أن مبدأ القوة هو الذي يتحكم في التاريخ ويوجه البشر، وكل ما يقال بعد ذلك وهم أ ومكر وتمويه. ودعوته إلى السوبرمان هي دعوة إلى ذلك الإنسان الذي يتعالي بقوة الروح الخلاق لا بقوة البدن والسلاح، وبالتالي فليس للفكرة، أو الأطروحة، علاقة بحماقات النزعة القومية الفاشية التي انتشرت في ألمانيا وأدت إلى سقوطها المروع مرتين متتاليتين في أقل من عقدين. ولعل أقوى دليل على وجاهة ما نذهب إليه أن نيتشه كان يواصل تنمية أطروحة هيجلية مفادها أن مظاهر الضعف في أخلاقيات الأفراد وسلوكهم ليست سوى أثر كئيب لهيمنة لغات التسلط والقمع التي عاناها البشر منذ القدم ولا تزال تحول شعوبا كاملة إلى عبيد مستلبي العقل والإرادة. وأظن هيدجر كان يعود إلى الأطروحة ذاتها، وإن بطريقته مختلفة طبعا، حينما ذهب إلى أن اللغة، التي هي بيت الكائن ومسكنه، كانت في الأصل لغة فكر وشعر في الوقت ذاته، والفصل بينهما يفقد الكينونة جزءا جوهريا من معناها الوجودي والتاريخي (وقد اتهم هو الآخر بتبرير النازية والتنظير لها كنيتشة من قبل كما نعلم!). كل هذا يعني أن نيتشه مثل حقبة فلسفية جديدة مختلفة تتسع مرجعياتها لتشمل عالما طالما أقصاه وأهمله الفكر الغربي المتمركز حول ذاته وثقافته، وهنا تكمن أهميته بالنسبة للمفكرين من خارج هذا السياق.
بقيت في النفس حكاية لا تقل طرافة عن تلك الحكاية الأستهلالية، وأنتهي بها لأنها قد تصلح مدخلا لبحث مهم لا يزال ينتظر من ينجزه كما سيلاحظ. ففي أواسط الثمانينات كنت أقابل المفكر المصري المعروف عبدالرحمن بدوي في المكتبة الوطنية بباريس كل يوم تقريبا. ونظرا لكونه بخيلا بالفلوس كل البخل، وسخيا بالعلم والفكر كل السخاء فقد كنا نفوز بما نشتهي من الوقت معه بمجر دعوته على قهوة أو طعام بسيط في المقهى المقابل للمكتبة. وكنت أحرص على اللقاء به لأن كتابه السيري بعنوان "الحور والنور" كان ضمن المتن السردي الذي اشتغل عليه في أطروحتي للدكتوراه عن صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة. وذات يوم تشعب بنا الحديث فقلت له إنني أجد علاقة تشاكل قوية فيما بين أسلوب نيتشه وأسلوب مفكرنا المنسي عبدالله القصيمي، وفيما بعد "هذه هي الأغلال" تحديدا، وأتساءل إن كان هذا المثقف قد اطلع على نيتشه وتأثر به وهو القادم من قلب جزيرة العرب، ولم يدرس في الغرب، ولم يكن يتقن لغات أجنبية.. فماذا قال لي؟. لقد قال ما معناه إنه لم يكن يترجم شيئا لنيتشه إلا وكان القصيمي أول من يقرؤه ويعيده إليه ويناقشه فيه بكل جدية وعمق. ولم يزد لأنني لم أكن لأطلب المزيد!.
- باريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.