أمير حائل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    استعراض تقرير الميزة التنافسية أمام أمير الشمالية    توصيات شورية لإنشاء المرادم الهندسية لحماية البيئة    خسائر بقيمة 1.6 مليار يورو في إسبانيا بسبب انقطاع الكهرباء    165 عقدا صناعيا واستثماريا بصناعيتي الأحساء    250% تفاوتا في أسعار الإيجارات بجازان    أمانة القصيم تحقق التميز في كفاءة الطاقة لثلاثة أعوام متتالية    أول تعليق من رونالدو بعد ضياع الحلم الآسيوي    برشلونة وإنتر ميلان يتعادلان 3/3 في مباراة مثيرة    سعود بن بندر يطلع على المبادرات الإصلاحية والتأهيلية لنزلاء السجون    أضواء بنت فهد: «جمعية خيرات» رائدة في العمل الخيري    جمعية الزهايمر تستقبل خبيرة أممية لبحث جودة الحياة لكبار السن    فيصل بن مشعل: اللغة العربية مصدر للفخر والاعتزاز    المتحدث الأمني للداخلية: الإعلام الرقمي يعزز الوعي المجتمعي    العلا تستقبل 286 ألف سائح خلال عام    جامعة الملك سعود تسجل براءة اختراع طبية عالمية    مؤتمر عالمي لأمراض الدم ينطلق في القطيف    اعتماد برنامج طب الأمراض المعدية للكبار بتجمع القصيم الصحي    قطاع ومستشفى محايل يُفعّل مبادرة "إمش 30"    الأمير سعود بن نهار يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    محافظ سراة عبيدة يرعى حفل تكريم الطلاب والطالبات المتفوقين    أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    خسارة يانصر    أمير جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    واشنطن تبرر الحصار الإسرائيلي وتغض الطرف عن انهيار غزة    أوكرانيا وأمريكا تقتربان من اتفاقية إستراتيجية للمعادن    حينما يكون حاضرنا هو المستقبل في ضوء إنجازات رؤية 2030    جاهزية خطة إرشاد حافلات حجاج الخارج    الرئيس اللبناني يؤكد سيطرة الجيش على معظم جنوب لبنان و«تنظيفه»    المملكة: نرحب بتوقيع إعلان المبادئ بين حكومتي الكونغو ورواندا    المتحدث الأمني بوزارة الداخلية يؤكد دور الإعلام الرقمي في تعزيز الوعي والتوعية الأمنية    وزير الخارجية يستقبل نظيره الأردني ويستعرضان العلاقات وسبل تنميتها    ميرينو: سنفوز على باريس سان جيرمان في ملعبه    بمشاركة أكثر من 46 متسابقاً ومتسابقة .. ختام بطولة المملكة للتجديف الساحلي الشاطئي السريع    وزير الخارجية يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير خارجية الأردن    رسمياً نادي نيوم بطلًا لدوري يلو    "مبادرة طريق مكة" تنطلق رحلتها الأولى من كراتشي    أمانة الشرقية تطلق أنشطة وبرامج لدعم مبادرة "السعودية الخضراء"    تدشين الهوية الجديدة لعيادة الأطفال لذوي الاحتياجات الخاصة وأطفال التوحد بجامعة الإمام عبد الرحمن    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    العمليات العقلية    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    حوار في ممرات الجامعة    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    أسباب الشعور بالرمل في العين    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيتشه: حوار الفكر والشعر
نشر في الرياض يوم 24 - 04 - 2008

سأبدأ هذه المقالة بطرفة فلسفية تليق بمقام نيتشه الذي كان يحب السخرية من كل شيء ومن كل أحد ويعدها "حكمة العالم". الطرفة تدور حول مقولة "الحقيقة" التي طالما بحث عنها الفلاسفة واختلفوا حولها. فقديما اعتقد أفلاطون وجماعة المثاليين معه أن الحقائق الكبرى كلها توجد في السماء، فذهب أرسطو إلى أنها تعيش مع البشر على الأرض. وبمجرد أن أكد ديكارت في عصر النهضة أن الحقيقة في الرأس حيث يعمل العقل، جاء روسو وجماعة الرومانسيين في القرن الثامن عشر ليعلنوا أن القلب هو الموطن الحقيقي لها. وفي القرن التاسع عشر قال ماركس أنها في البطن فرد عليه فرويد أنها أسفل البطن. وحاول أنشتاين أن يحل المعضلة فقال إن الحقيقة نسبية دائما من منظور العلم الفيزيائي الدقيق، لكن نيتشه ظل يلح على أن كل الحقائق مجرد أوهام نسي الناس أنها كانت كذلك ذات يوم بعيد!.
هذه الطرفة قد تروى بصيغ متنوعة، كالحكاية الشعبية تماما، لكنها مضمونها العام يظل ثابتا وهذا هو المهم. فالبحث عن الحقيقة قديم متصل. والذين يبحثون عنها هم الحكماء من المفكرين والعلماء الذين يحبون المعرفة بقدر ما يغرق الشخص العادي في شؤون حياته اليومية. لكن الحقيقة تظل كلمة حمالة وجوه، ولذا ما إن يصيح أحدهم "وجدتها" حتى يسمع أصواتا أخرى تشكك في الأمر، وكأن الانشغال الدائم بالبحث عن الشيء ذاته يؤدي إلى تشتته أو حتى إلى فقده بكل بساطة. وإذا كان هناك ما يميز الفكر في العصر الحديث، وفي مجمل خطاباته، فهو هذه المفارقة الكبرى التي تتمثل في الوعي بكثرة الحقائق التي يسميها أو يكتشفها أو يختلقها الباحثون يوميا، وفي كل المجالات، والوعي أيضا، وفي اللحظة ذاتها، بأن كل الحقائق سريعا ما تبدو قليلة هشة أمام مجهولات العالم والكون. إنه إذن عصر القلق والشك. ولعل نيتشه من أهم الفلاسفة الذين أدركوا هذه المعضلة وأصروا على تأملها والتآلف معها لأن حسمها لم يعد ممكنا لا من قبل الفكر الفلسفي ولا من قبل العلوم الدقيقة. وحين يوصف بأنه فيلسوف عدمي لا تستغرق الصفة من الذات والخطاب سوى ما يطل على السطح من المعنى. فهذا المفكر التراجيدي الكبير ينتمي لسلالة غريبة نسبيا عن السياق الغربي، سلالة تحتفي بحرية الفكر ولا تثق كثيرا في عقل الكائن البشري بمجرد أن يدعي القدرة على إدراك الحقيقة والتعبير عنها بدقة ووضوح، قولا أو كتابة. فالشك عنده ليس مرحلة فكرية أو خطوة منهاجية تفضي إلى الحقيقة، كما عند ديوجين أو ديكارت، بل هو مبدأ أصلي متصل يفترض أن يحترم ويؤنسن بمعنى ما. ومن يشك ويتشاءم ليس عدميا أو يائسا بالضرورة، لأنه قد يكون الأقرب إلى الواقع والأكثر قدرة على تفهم التباسات البشر، ولن يفاجأ أبدا بحماقاتهم حين يفتك أحدهم بالآخر باسم مباديء الحق والخير والعدل ذاتها. نعم، لم يكن نيتشه فيلسوفا أكاديميا محترفا بالمعنى السائد من قبله ومن بعده، ومع ذلك، وربما بفضله، "تمكن من هدم عمارة الفكر الغربي العريق بهزة كتف" كما قال عنه تلميذه ونظيره الفرنسي الأهم ميشيل فوكو. وهنا أيضا تنتفي مقولة العدمية من وجه آخر لأنه باشر هدم الفكر المعتبر، أو المهيمن، من أجل التأسيس للغة فلسفية جديدة مختلفة تخصه بقدر ما تفتح الخطاب على أفق كان غائبا أو مغيبا في السابق. ففي كل نصوصه سنجد المفاهيم والمصطلحات والمقولات تتوارى خلف شبكة كثيفة من الاستعارات والتشبيهات والكنايات أي أننا أمام لغة مجازية تحتفي بالصور المبتكرة الخلاقة، وهذه هي لغة الشعر بامتياز. ثم إن التراكيب الإنشائية- النحوية عنده تنزع دائما إلى الاختزال والتكثيف كي تستقل كل عبارة بقوامها النحوي ودلالاتها الفكرية. هنا تحديدا نطل على مرجعات بعيدة متنوعة لهذه اللغة الشعريه التي تترجم عن العواطف والمشاعر فيما هي تستحضر الفكر وتعلنه مشعا وملتبسا في الوقت ذاته. فأسلوب الشذرات المكثفة واللمع الخاطفة سنجده ظاهرة بارزة في أساليب القول والكتابة الخاصة ببعض الشعراء المتصوفة الذين يؤمنون بمبدأ "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وعند حكماء الهند والصين وفارس، ولدى شعراء الهايكو في جزر الشمس المشرقة (اليابان). وليس غريبا أن يتخذ نيتشه شخصية "زرادشت" قناعا وقرينا لواحد من أهم كتبه التي مارس من خلالها لعبة الهدم الساخرة المرحة للعقلانية الغربية القديمة والحديثة، وقبل جاك دريدا بعقود، ونعني كتابه (هكذا تكلم زرادشت). هناك وهم آخر شاع عن هذا المفكر ويتعلق بعدائه للدين وإعلانه "موت الأله". فالحقيقة أن نيتشه كان خصما عنيدا للمسيحية الكنسية الطغيانية التي تنكرت لمبادئي المسيحية الأولى، وادعى ممثلوها حق تمثيل الحقيقة المقدسة دون غيرهم، وبرروا مختلف أشكال الاستعمار منذ فتح أمريكا إلى فتك أمريكا بعالم اليوم. فالأمر يتعلق بلعبة دنيوية بشرية تستعمل، وتستغل، مشاعر التدين الشعبي لخدمة فئات وطبقات متنفذة لم تكن تؤمن في الواقع بغير مصالحها الخاصة. بل إن كتاباته عن الحروب الصليبية كانت مبادرة شجاعة لكشف جذور هذه اللعبة المتصلة، اما المسيح ذاته فقد مثل عنده شخصية تراجيدية ظل يجلها طوال حياته. ولعل الخلاصة الأهم التي توصل إليها هذا المفكر القلق المشائم المريض جسدا ونفسا أن مبدأ القوة هو الذي يتحكم في التاريخ ويوجه البشر، وكل ما يقال بعد ذلك وهم أ ومكر وتمويه. ودعوته إلى السوبرمان هي دعوة إلى ذلك الإنسان الذي يتعالي بقوة الروح الخلاق لا بقوة البدن والسلاح، وبالتالي فليس للفكرة، أو الأطروحة، علاقة بحماقات النزعة القومية الفاشية التي انتشرت في ألمانيا وأدت إلى سقوطها المروع مرتين متتاليتين في أقل من عقدين. ولعل أقوى دليل على وجاهة ما نذهب إليه أن نيتشه كان يواصل تنمية أطروحة هيجلية مفادها أن مظاهر الضعف في أخلاقيات الأفراد وسلوكهم ليست سوى أثر كئيب لهيمنة لغات التسلط والقمع التي عاناها البشر منذ القدم ولا تزال تحول شعوبا كاملة إلى عبيد مستلبي العقل والإرادة. وأظن هيدجر كان يعود إلى الأطروحة ذاتها، وإن بطريقته مختلفة طبعا، حينما ذهب إلى أن اللغة، التي هي بيت الكائن ومسكنه، كانت في الأصل لغة فكر وشعر في الوقت ذاته، والفصل بينهما يفقد الكينونة جزءا جوهريا من معناها الوجودي والتاريخي (وقد اتهم هو الآخر بتبرير النازية والتنظير لها كنيتشة من قبل كما نعلم!). كل هذا يعني أن نيتشه مثل حقبة فلسفية جديدة مختلفة تتسع مرجعياتها لتشمل عالما طالما أقصاه وأهمله الفكر الغربي المتمركز حول ذاته وثقافته، وهنا تكمن أهميته بالنسبة للمفكرين من خارج هذا السياق.
بقيت في النفس حكاية لا تقل طرافة عن تلك الحكاية الأستهلالية، وأنتهي بها لأنها قد تصلح مدخلا لبحث مهم لا يزال ينتظر من ينجزه كما سيلاحظ. ففي أواسط الثمانينات كنت أقابل المفكر المصري المعروف عبدالرحمن بدوي في المكتبة الوطنية بباريس كل يوم تقريبا. ونظرا لكونه بخيلا بالفلوس كل البخل، وسخيا بالعلم والفكر كل السخاء فقد كنا نفوز بما نشتهي من الوقت معه بمجر دعوته على قهوة أو طعام بسيط في المقهى المقابل للمكتبة. وكنت أحرص على اللقاء به لأن كتابه السيري بعنوان "الحور والنور" كان ضمن المتن السردي الذي اشتغل عليه في أطروحتي للدكتوراه عن صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة. وذات يوم تشعب بنا الحديث فقلت له إنني أجد علاقة تشاكل قوية فيما بين أسلوب نيتشه وأسلوب مفكرنا المنسي عبدالله القصيمي، وفيما بعد "هذه هي الأغلال" تحديدا، وأتساءل إن كان هذا المثقف قد اطلع على نيتشه وتأثر به وهو القادم من قلب جزيرة العرب، ولم يدرس في الغرب، ولم يكن يتقن لغات أجنبية.. فماذا قال لي؟. لقد قال ما معناه إنه لم يكن يترجم شيئا لنيتشه إلا وكان القصيمي أول من يقرؤه ويعيده إليه ويناقشه فيه بكل جدية وعمق. ولم يزد لأنني لم أكن لأطلب المزيد!.
- باريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.