لو عاد بنا الزمن إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وحاورنا العلامة عبدالرحمن بن خلدون مؤسس علم الاجتماع، وسألناه عن «التسويق» في عصره، لأجابنا بمقولات قد تبدو لأذن المعاصرين غريبة، لكنها في جوهرها تُشكل أُسسًا راسخة لما نُسميه اليوم «اقتصاد السوق» و»فنون التسويق». في مقدمته الخالدة، لم يذكر ابن خلدون مصطلح «التسويق» صراحةً، لكنه شرح بعمق كيف تتطور المجتمعات والاقتصاد، حيث كان يتأمل نمو المدن، ويراقب الناس وهم يتبادلون السلع والأفكار، ويرى كيف تؤثر البيئة في حاجاتهم ورغباتهم، وهذا تمامًا ما نُسميه اليوم «دراسة السوق»، فالتسويق من وجهة نظره قائم على فهم البيئة الاجتماعية والاقتصادية. كذلك أكد أن ازدهار أي سوق يعتمد على الثقة والعلاقات بين الناس، وأن الأمانة والصدق هما أساس البيع الناجح، وهي رؤية تصلح لتكون فلسفة تسويقية تسمى «الولاء» في عصرنا. ويرى ابن خلدون أن الحضارة والعمران أصل النشاط الاقتصادي؛ فحيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، ينشط الطلب وتتوسع الأسواق. ويقول «إذا كثر العمران كثرت الحاجات... وتنوعت حاجاتهم ومكاسبهم»، هنا نجد البذرة الأولى لفكرة «الطلب الفعّال» و»السوق المستهدفة»، فالتسويق لا يَحدث في فراغ، بل في مجتمع متعدد الحاجات وقادر على الشراء. كما يقدم ابن خلدون تحليلًا عميقًا لقيمة السلعة، معتبرًا أن قيمتها لا تنبع من ذاتها فحسب، بل من «قيمة العمل» المبذول فيها بالإضافة إلى «الحاجة» إليها وندرتها، إذ أشار إلى أن السلع القادمة من بلاد بعيدة يرتفع ثمنها لا بسبب كلفتها وحدها مع نقلها، بل لأن البعد يضفي عليها هالة من الندرة والجاه. كما رأى أن النجاح التجاري لا يتحقق فقط من خلال امتلاك رأس المال، بل من خلال ما أسماه «الحس التجاري»، وهو القدرة على تقدير ومعرفة ما يضيفه الجهد البشري من قيمة عند البيع. ويتحدث عن «حرفة الكسب»، التي تشمل البيع والشراء والتفاوض، حيث كان يلاحظ التفاصيل الدقيقة في نظرة المشتري وأسلوب البائع وحرارة المفاوضة ليؤكد أن التسويق ليس ترويجًا فقط، بل فهمٌ لنفسية المشتري، ومهارة لما يسمى في عصرنا الحالي «البيع الشخصي» في العرض والإقناع ومعرفة بمواطن القيمة، وهي بذلك البصيرة التي تميز المسوّق الذكي القادر على تقديم قيمة حقيقية للعميل. ويؤكد ابن خلدون أن تطور الحرف وازدياد التخصص دليل على رقي الحضارة، وأن الجودة تختلف باختلاف «مهارة الصانع»، وهذا هو جوهر «الميزة التنافسية» في التسويق، فالسوق يكافئ الجودة العالية والحرفة المتميزة، لا المنتج الرديء. لم يكن ابن خلدون مسوّقًا بالمعنى الحديث، لكنه كان مفكرًا استراتيجيًا في فهم اللبنة الأولى لأي نشاط تسويقي ناجح: «المجتمع» (السوق المستهدف)، «القيمة المدركة» (العلامة التجارية)، «المهارة في البيع» (فنون التسويق)، «الجودة والتخصص» (الميزة التنافسية)، وأخيرًا «الثقة والعدل» (أخلاقيات التسويق). ولو أُعطي بيانات السوق الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، لربما صاغ لنا «مقدمة» جديدة في «علم التسويق» تُبهرنا بعمقها، وتؤكد أن جوهر التسويق ثابت، حيث تتغير أدواته عبر العصور أما قواعده فتبقى كما هي.