لا يكاد يمرّ يومٌ إلّا ويظهرَ شرخٌ جديدٌ في بناء التحالفات الدولية التي بُنيت على عقود من الالتزامات الراسخة، والأدهى أن ما كان من هذه التحالفات يومًا مصدرًا للاطمئنان أصبح اليوم مصدرًا للقلق والارتياب في القرن الواحد والعشرين، وما كان يُقرأ منها كضمانات للاستقرار والتوازن، تبدو اليوم وكأنها شبكات من الخيوط المتداخلة التي تتفكّك بسرعة أمام أول زوبعة سياسيّة أو عسكريّة، وفي تجاذبات أعضاء حلف الناتو طوال أزمة أوكرانيا، ما يكفي من شواهد للتصدّعات الداخلية الكاشفة عن توسّع هوّة عدم الانسجام العميق بين أعضائه. وليس المشهد في أفريقيا بأقل تعقيدًا، فقبل عقدين، كانت القارة ساحةً حصريةً للنفوذ الفرنسي، حيث كانت باريس تتحكّم في السياسات الأمنية والاقتصادية لدول مثل: مالي والكاميرون وساحل العاج، لكن هذه الدول اليوم، تشهد تحولاً جذريًا في خياراتها الاستراتيجية نحو روسيا والصين، التي تقدّم الدعم لهذه الدول في معادلةٍ بسيطة: أمنٌ مقابل ولاء، والزمن كفيلٌ بأن تتبع بقيّة المصالح. وفي هذا المشهد، لا تقتصر تحولات التحالفات على اللاعبين الدوليين، بل تمتدّ إلى التحالفات الإقليمية نفسها التي كانت تُعتبر ركائز الاستقرار في أقاليم كثيرة مثل: الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، والجامعة العربية، والاتحاد المغاربي. حيث تظهر هنا المفارقات الكبرى، فهذه التحالفات التي بُنيت على المصالح المشتركة تتفكك عندما تتصادم مع المصالح الوطنية الضيقة، وتظهر علامات التفكك واضحة مع انهيار أحلام التكامل الاقتصادي في هذه التجمعات لأسباب تتعلق بمصالح كل دولة، ثم يأتي التنسيق العسكري والأمني في كل أزمة ضحيّة ثانية للمزايدات والمناورات السياسية. وهذا الأمر ذاته ينطبق على دول الخليج، في مجلسها التعاوني داخليّا، ثم في أمنها الخارجي وهي التي كانت تعول لعقودٍ على الولاياتالمتحدة كضامنٍ لأمنها، لكنها بدأت تشكّ في جدوى هذا الاعتماد بعد سلسلة أحداثٍ كشفت عن براغماتية الالتزام الأميركي، ولهذا شرعت في تنويع مصادر أمنها، ليس عبر تعزيز قدراتها العسكرية الذاتية فقط، بل وعبر بناء جسورٍ التعاون مع خصوم حلفائها الغربيين. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم تعد التحالفات مطمئنةً كما كانت في الماضي؟ الجواب لا يكمن في ضعف هذه التحالفات بحد ذاتها فقط، بل في تحوّل طبيعة النظام الدولي من هيمنةٍ أحادية القطب إلى تنافسٍ متعدد الأقطاب، وتفكك القيم (المصالح) المشتركة التي كانت تُعتبر أساسًا لهذه التحالفات القديمة. ويلعب الجانب الاقتصادي دورًا محوريًا في هذا الارتباك، ففي العقود الماضية، كانت التحالفات الاقتصادية (مثل: منظمة التجارة العالمية) تُعتبر ضمانةً للاستقرار عبر قواعد ملزمة للجميع. لكن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت هذه القواعد في التصدّع مع صعود الحمائية التجارية من الولاياتالمتحدة وبعض دول أوروبا مبررةً ذلك بحماية الصناعة الوطنية، وهذه الخطوة لم تكن مجرد سياسة تجارية، بل كانت إشارةً إلى أن التحالفات الاقتصادية ليست محصّنة عندما تتصادم مع المصالح الداخلية. والنتيجة النهائية لهذا الارتباك هي أن الدول باتت تبحث عن نماذج جديدة للتحالفات، وتبتعد عن الالتزامات الدائمة وتركز على الشراكات المرنة "توازن التحالفات" التي تُبنى مع قوى متناقضة على قضايا محددة، والأسئلة الأصعب هنا هي: ماذا لو فشلت الدول في بناء هذه البدائل؟ وما مدى متانة هذه القوى الجديدة؟ وهل ستظهر سيناريوهاتٌ قاتمة تتحول معها أقاليم من العالم إلى ساحة صراعٍ بين القوى المتصارعة، حتى تتبيّن ملامح النظام الدولي الجديد؟. بالنسبة للشرق الأوسط، قد تكون هذه الفوضى فرصةً لبناء نموذجٍ جديد يرتكز على الاعتماد الذاتي، والشراكات التكتيكية المرنة، حتى لو كان الثمن هو فقدان جزءٍ من الراحة التي كانت توفّرها التحالفات التقليدية، فمما يبدو لم يعد هناك خيار أفضل من المراهنة على الذات، فالعالم الذي كنّا نعرفه قد انتهى، والعالم الجديد لم يُولد بعد. * قال ومضى: بعدسة التاريخ يقرأ كل ذي بصيرة ملامح المستقبل؛ ليعرف مصيره.