يشهدُ العالم منذ سنوات قلائل ظهور تحوّلات سياسيّة كبرى بدت وكأنهّا تعيد رسم خريطة العلاقات الدوليّة وصياغة المفاهيم التي حكمت السياسة والاقتصاد والمجتمعات لعقود مضت. وهذه التحوّلات لم تأتِ من فراغ، بل جاءت نتيجةً لجملة من الأزمات العميقة التي هزّت النظام العالمي، بدءًا من جائحة كورونا التي كشفت هشاشة العولمة، وصولًا إلى الحرب الروسيّة الأوكرانيّة التي أعادت شبح الحروب التقليديّة، مرورًا بالأحداث الكبرى في لبنان وسوريا وإيران وفلسطين، يُضاف إلى ذلك تسارع الثورة التكنولوجيّة التي جعلت التقنية ساحة صراع جيوسياسي لا يقل خطورة عن ميادين المعارك، وما نراه اليوم من مظاهر ليست مجرد تغيرات عابرة، بل هي إرهاصات إعادة هيكلة للنظام الدُّوَليّ بما سيوجّه مستقبل العلاقات الدوليّة لعقود قادمة. وفي هذا السياق، يبرز تعاظم دور الدولة الوطنيّة أحد أبرز المظاهر الجديدة، وهو تحوّل يعكس رد فعل واضح على خيبات التجربة مع سياسات وممارسات العولمة وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الدوليّة على مسار الاقتصاد العالمي، مما أضعف سيادة الدول وقدرتها على رسم سياسات مستقلة. لكن الأزمات الماليّة، وموجات الهجرة، وجائحة كورونا، كلها دفعت كثيراً من الدول إلى إعادة اكتشاف ذاتها كفاعل مركزي في حماية مواطنيها وتأمين مواردها بتنويع شراكاتها وبناء قدراتها الوطنيّة بعيدًا عن هيمنة من تحكّموا طويلًا في مسارات السوق العالميّة. وبالتوازي مع ذلك، أُعيد تعريف مفهوم الأمن الوطني (وربما العالمي) بشكل جذري، إذ لم يعد الأمن مقتصرًا على القدرات العسكريّة، بل أصبح يشمل طيفًا واسعًا من التهديدات غير التقليديّة التي تتراوح بين الأمن الصحي والأمن الغذائي والأمن البيئي والأمن السيبراني، فالهجمات الرقميّة باتت قادرة على شلّ دول كبرى بقدر ما تستطيع الصواريخ، والتغيرات المناخيّة تهدّد مصادر المياه والزراعة وتفتح الباب لصراعات جديدة على الموارد، وهكذا تحوّلت السياسات الأمنيّة من مجرد إدارة المخاطر العسكريّة إلى بناء منظومات مرنة قادرة على الاستجابة للمخاطر الجديدة. وإذا انتقلنا إلى المشهد الداخلي للدول الغربيّة، نجد أن الشعبويّة واليمين المتطرف تصاعداً كقوة مؤثرة تظهر ردود الفعل الشعبيّة على التفاوت الاقتصادي والهجرة وفقدان الهويّة، وببرهن المشهد السياسي في الولاياتالمتحدة وأوروبا على حقيقة واضحة تقول بأن حتى أعرق الديموقراطيات لم تعد محصنة من الشعبويّة التي تستخدم الخوف والهويّة سلاحًا للتأثير على الناخبين. ومما يضفي على هذا كله بُعدًا أكثر تعقيدًا مشهد التنافس التكنولوجي الذي تحوّل إلى جغرافيَا سياسيّة جديدة، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي أو شبكات الجيل الخامس مجرد أدوات اقتصاديّة، بل غدت ساحات صراع على السيادة الرقميّة والنفوذ العالمي، وتعكس المواجهة بين الولاياتالمتحدة والصين في هذا المجال ملامح «حرب تكنولوجيّة باردة» جديدة، وهي حرب ستقسم العالم إلى معسكرات متعارضة تكنولوجيًا. وفي هذا السياق، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل النظام الدُّوَليّ، الأول المحتمل، يتمثل في استمرار الاتجاه نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث تتوزع القوة بين عدة مراكز، والثاني يتمثل في تقسيم العالم إلى كُتل متنافسة، كلٌ منها تدور حول قوة عظمى معينة، أما السيناريو الثالث، وهو الأكثر تفاؤلًا، فيتجلّى في ظهور نظام دُوَليّ جديد يجمع بين التعدّديّة القطبيّة والتعاون المتعدّد الأطراف. الخلاصة، إن هذه التحوّلات، بما تحمله من تحديات، تفرض على الباحثين وصنّاع القرار إعادة النظر في المفاهيم والنظريات والتحالفات التي وجهت السياسة الدوليّة لعقود مضت. فالواقع الجديد لا يمكن قراءته بأدوات الماضي، بل يستدعي تفكيرًا استراتيجيًا حديثًا يوازن بين ضرورات السيادة الوطنيّة وأضرار الانخراط العالمي، ويعيد تعريف الأمن الوطني بما يواكب التهديدات الجديدة. * قال ومضى: الحقيقة لا تشعل حريقة.. بل تطفئ الحرائق لمن يمنحها بضع دقائق.