عندما دارت عجلة الإنتاج في بدايات القرن العشرين، وتقلصت ساعات العمل، وحضرت أوقات الفراغ الطويلة، بجانب وجود وفرة في الإنتاج، بلا منافذ تصريف، احتاج ملاك الصناعات لقوة دفع، تجعل الطلب على منتجاتهم أعلى، وكان العمال هم الورقة الرابحة، وتم استهدافهم، وتغيرت القواعد من إجبار الناس على العمل بتعزيز شعورهم بالفقر إلى تحفيزهم على صعود سلم وهمي من الرغبات الاستهلاكية.. في عام 2013، وجدت دراسة أجريت على ألفي متسوق في بريطانيا، أن الرجال يملون من التسوق بعد 26 دقيقة لا أكثر، في مقابل ساعتين للنساء، وحالة الملل تجتاح 48 % من الرجال إجمالا، ولدرجة أنهم قد يغادرون المحال التي يتم فيها التسوق، بينما تفضل امرأة من كل ثلاث نساء الجلوس خارج المحل، في انتظار إكمال شريكها لتسوقه، وسجل موقع بيزنس أن رجلا واحدا من بين كل أربعة، اعترف أنه أحس بالملل الشديد من رحلة التسوق، ووصل به الأمر إلى ترك زوجته والعودة لوحده إلى المنزل.. والاختلاف في عادات التسوق بين الجنسين، استنادا لمجلة ايكونوميك تايمز، يعود تاريخه إلى أيام الإنسان البدائي، عندما كان الرجال يخرجون إلى الصيد ويعودون بأسرع ما يمكن إلى كهوفهم، وهذا يمثل عاداتهم الحالية في التسوق، بينما ينشغل النساء باختيار وجمع الخضروات والفواكه، ولم يكن في عجلة من أمرهن، وما سبق يماثل طريقتهن الحالية في التسوق، والفكرة فيها تفسير معقول، لاختلافات سلوكيات التسوق بين الطرفين. توجد أمور إضافية تؤثر في تسوق المرأة وتحديدا في فترتي الحيض والخصوبة، بحسب دراسة نشرتها جامعة سان فرانسيسكو الأميركية في 2023، فكلاهما يختلفان عن الأيام العادية، ويكون النساء فيهما أكثر اندفاعا في مسألة الإنفاق، وعلى أشياء قد لا يستخدمنها، ولا تتناسب مع ذوقهن الطبيعي، وتعتقد اليزابيت هارتني، مديرة مركز القيادة والبحوث الصحية في جامعة رويال رودز الكندية، أن إدمان التسوق يبدأ في أواخر سن المراهقة، ويرافقه في معظم الأحيان، اضطرابات مختلفة، كاضطراب المزاج والقلق، واضطرابات الأكل، واضطراب ما بعد الصدمة، وصعوبة السيطرة على الانفعالات، وهو في هذه المرحلة، يعتبر بمثابة وسيلة أساسية لإدارة التوتر، ولو انعكس سلبا على الأمور المالية والاجتماعية، وفي رأيي، الإدمان ملة واحدة، سواء كان على التسوق أو المخدرات أو الكحوليات أو غيرها، ولا يستبعد أن يقوم الشخص بالسرقة أو القتل، أو حتى الاعتداء على الآخرين لإشباع رغبته. زيادة على الإدمان هناك اضطراب وجداني ثنائي القطب، يعرف باسم هوس التسوق، وهو سلوك قهري على التسوق لم يتم الاعتراف به إلا في 2013، أو قبل 12 عاماً، ويمكن القول إنه يتقاطع نسبيا مع الوسواس القهري، وبالأخص في جانب الجبرية، وأسبابه قد تكون بيولوجية، نتيجة لخلل في الناقلات العصبية الكيميائية الموجودة في المخ، مثل السيروتونين، أو ربما نفسية بفعل الاكتئاب والقلق وضغوط الحياة، أو سلوكية كالحرمان والتدليل في مرحلة الطفولة، وترسيخ قيم غير سوية عند الطفل، ومن أمثلتها، اختصار مفهوم النجاح في المنازل الفخمة، أو السيارات الفاخرة، أو الكماليات بشكل عام، وأشارت الإحصاءات إلى أن أمثال هؤلاء يكونون عرضة للديون بنسبة 58%، أو يتورطون في إدمان المخدرات بنسبة 46%، ومتوسط أعمار المصابين به 30 عاما، ولكنه يزداد بصورة كبيرة ما بين عمري 18 و20عاماً، وهدفه الأساسي تحسين المزاج، والإحساس بالسعادة المؤقتة، وبالتفوق على المنافسين. ثقافة الاستهلاك المفرط وبلا احتياج فعلي ليست جديدة، فالتعامل مع الأشخاص باعتبارهم مستهلكين، بدأ قبل الحرب العالمية الأولى، والمعنى أنه بعدما استفاد العالم من نتائج الثورة الصناعية الثانية، في نهاية القرن التاسع عشر، خرج الناس تدريجياً من حالة الطوارئ المعلنة، وعندما دارت عجلة الإنتاج في بدايات القرن العشرين، وتقلصت ساعات العمل، وحضرت أوقات الفراغ الطويلة، بجانب وجود وفرة وفائض في الإنتاج، بلا منافذ تصريف.. احتاج ملاك الصناعات لقوة دفع، تجعل الطلب على منتجاتهم أعلى من العرض، وكان العمال هم الورقة الرابحة، وتم استهدافهم، وتغيرت قواعد اللعبة، من إجبار الناس على العمل بتعزيز شعورهم بالفقر، إلى تحفيزهم على صعود سلم وهمي من الرغبات الاستهلاكية، وبما يوصلهم إلى رفاهية الأغنياء والمقتدرين، وتحول الإنفاق من الأساسيات، إلى الصرف العاطفي، للإحساس بالسعادة اللحظية، أو لإشباع نشوة الامتلاك، وعملقة الذات. 6 % من مواطني أميركا يصنفون أنهم مشترون قهريون، أو بالأرقام 20 مليونا و250 ألف شخص، والسابق يقدم وجبة دسمة لمصنعي المنتجات بأنواعها، وطبقة المستهلكين في العالم تقدر بمليار وسبع مئة ألف إنسان، وهؤلاء ينفقون سنوياً في حدود 25 ترليون دولار، وفي الوقت الحالي، أصبح الناس يعرفون أنفسهم بما يشترون، ضمن ما يسمونه بتسليع الواقع، ما يصادق على رؤية فيلسوف القرن الثامن عشر الميلادي، برنارد ماندوفيل، الذي قال إن الطريقة الوحيدة لتكوين الثروة لا تكون إلا بضمان ارتفاع الطلب على الأشياء السخيفة وغير الضرورية، وهو ما يحدث حالياً في التسوق وفي غيره.. ومن الشواهد، دراسة أجراها باحثون في جامعة ميشيغان الأميريكية، أواخر 2024، ووجدوا فيها أن الأشخاص الذين يتسوقون ويشترون، أقل حزنا ممن يكتفون بالتسوق البصري، وبمعدل ثلاثة أضعاف، ومعه ظهور مصطلحات تجارية من نوع التسوق العلاجي، وكالعادة لا يوجد رصد احترافي لهذه الظاهرة سعودياً، وخصوصاً من قبل الباحثين الجادين وهيئة الإحصاء السعودية.