أليس ظلماً أن يرمي الانسان نفسه في التهلكة، ويعرض ذاكرته وهي أساس هويته الشخصية إلى ملوثات التكنولوجية وإشعاعاتها الخطرة، فيُبتلى بالخرف والنسيان ، بعد أن منّ الله عليه بالصحة التامة وخلقه في أحسن تقويم. يقول المولى عز وجل:" وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" صدق الله العظيم. لقد استفادت البشرية من هذا المخترع الرقمي على كافة الصعد وفي شتى المجالات، وصارت حياتنا رهن إشارته وتحت خدمة إشعاراته؛ لما تقدمه من حلول، وسرعة في انجاز المهام وتسهيل الأمور، وأصبحت برامجه وتطبيقاته في محيطنا هي إكسير فعّال لا يمكن الانفكاك عنه، وهو الشر الذي ًلا بد منه. لقد طغت التكنولوجيا على الجانب الجميل في حياتنا، ولم نعد نهنأ بدفء الأسرة ولمة العائلة، وانخفضت الإنتاجية في أعمالنا؛ بسبب إضاعة الوقت في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي. كما ضعف التحصيل الدراسي عند طلابنا وانتشرت البدانة فيما بينهم؛ بسبب قلة الحركة والخمول، وتسطحت الثقافة لدى البعض منا؛ نتيجة المرور السريع وضعف التركيز فيما يصلنا من معلومات وأخبار، وقد أدمن من يحب بريق الشهرة والوصول إلى( الترند) على الكذب والتلفيق. كما فُقدت الخصوصية في حياتنا؛ حين ارتضينا أن نشارك بياناتنا مع كل من هب ودب وأدعى أنه صديق! كثيراً ما حذر الخبراء من الجلوس المفرط وراء الشاشات الصماء، وما قد تسببه للمستخدم من فقدان للوظائف الإدراكية، وتشتت للانتباه وخاصة بين الجيل Z والجيل Alpha ،الذي ولد مع نشأة الإنترنت، واعتمد عليها في تزويده بالمعلومات بدلاً من تعلمها وحفظها عن ظهر قلب، وبين الأطفال في مرحلة النمو من عمر 0-5 الذين يتعرضون لمشاهدة الفيديوهات القصيرة بشكل مستمر؛ فيصابون بإرهاق ذهني وخلل في وظائف هرمون الدوبامين، الذي يؤثر على برمجة دماغهم، فيجعلهم أقل انتباهاً وأقل تحكماً في انفعالاتهم وأقل تخيلاً وإبداعاً (يعتمدون على المحتوى الجاهز) وهذه لعمري أولى أعراض الخرف المبكر عند الصغار. ما أصعب أن يعيش الانسان غريباً بين الناس، وقد استنزفت ملكاته العقلية، فأصبح نسيا منسياً، يستحق الشفقة ويطلب الرعاية. ولكي نحد من استفحال هذه المشكلة، ونقضي على ظاهرة الخرف الرقمي التي بدأت تلوح في الأفق، خاصة بين هؤلاء المتغولين في استخدام الإنترنت وذكائه الاصطناعي، علينا كأهالي ومربين عاصروا أيام الزمن الجميل، أن نعزز الأنشطة البديلة، ونقوي ذاكرتنا عن طريق التعليم المستمر والتكرار المتباعد والاستذكار النشط، وأن نكون قدوة نافعة وملهمة لأطفالنا، وهم الحلقة الأضعف، فنتحاور معهم، ونلعب معهم، ونشجعهم على قراءة القصص الورقية، وننمي مهاراتهم اليدوية، ونحدد لهم ساعات الجلوس على الكمبيوتر وممارسة العمل الرقمي، الذي يخدم مسارهم التعليمي من أنشطة وفعاليات وجلسات إرشاد أكاديمي، وللأسف، فقد باتت الأجهزة اللوحية اليوم من وسائل طرق التدريس الحديث المعتمدة في أكثر دول العالم !.. وعلى قول الشاعر المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحرّ… أن يرى عدواً له ما من صداقته بدٌ!