التأمل في التراكيب القرآنية دعوة لتأمل العربية والبحث في دلالة ألفاظها، فكل مفردة تُستخدم بميزان. في هذا المقال نتأمل ظاهرة تكرار تتابع بعض الأفعال مثل: «خلق» و»جعل» في الآي القرآني والوقوف على دلالة كل منهما. بالعودة إلى معاجم العربية نجد أن: (خلق) تعني: الإيجاد على غير مثال سابق، إخراج الشيء من العدم. و(جعل) تعني: التصيير والتحويل، أو التقدير والتنظيم، وقد تتعلق بحال أو وظيفة أو ترتيب. وفي الإشارة إلى بعض استخدامات «جعل» في اللغة: جعل الشيء شيئًا آخر (تحولًا)، أو جعله في مكان ما (تمكينًا)، أو جعله على هيئة معينة (تقديرًا). وعليه نجد أن (جعل) ذات دلالة واسعة، وتأتي لاحقة ل(خلق) في القرآن الكريم إذا تزامنتا. ففي بداية سورة الأنعام: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال تعالى: «خلق السماوات والأرض» لأنها أعيان مخلوقة من العدم، لها وجود ذاتي محسوس. وقال «جعل الظلمات والنور» لأنها ظواهر تنتج عن نظام كوني، ليست أعيانًا مادية بحد ذاتها، بل ترتيبات أو أحوال. وفي هذا الأسلوب دلالة على التزامن التتابعي لهذين اللفظين. والتفريق الدقيق بين الإيجاد والتدبير. وفي سورة الزمر: (وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) في خلق النفس الواحدة: إشارة إلى بدء الوجود الإنساني. وجعل الزوج منها: دلالة على إنشاء وظيفة أو هيئة جديدة (الزوجية) من أصل مخلوق. وهذا ينسجم مع أن دلالة «جعل» التي تتضمن انتقالًا، أو اختصاصًا، أو تكوين علاقة أو نظام من شيء موجود. والأمثلة في القرآن الكريم دالة على هذا المعنى الذي يميز بين خلق وجعل وإن لم تتزامنا، من ذلك: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء: 12]: الليل والنهار حالتان زمنيتان، لذا جاء ب»جعل». (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) [الإنسان: 2]: إيجاد مادي واضح. (جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) [الحجرات: 13]: «جعل» هنا للتقدير الاجتماعي وليس الخلق الذاتي. إذن نستطيع القول بأن: لكل من هذين الفعلين «خلق» و»جعل» دلالته العميقة سواء وردا مستقلين أو متتابعين. وفي هذا إشادة بجمال البيان القرآني وتفرده الدلالي واتساع مفردات العربية واستقلال كل مفردة بدلالة خاصة بها.