لا يقدّم وائل الحفظي في روايته "ترف الانكفاء" الحائزة على جائزة أسماء صديق للرواية الأولى 2025، سردًا تقليديًا، ولا حكاية متماسكة تُروى، بل يدعونا إلى المكوث في تربة الوعي المهتز، حيث لا شيء واضح، ولا شيء مكتمل. لنتأمل هل يمكن للانكفاء أن يكون ترفًا؟ أم أنه القشرة اللامعة التي تخفي داخلًا هشًّا؟ بحبر القلق كتبت الرواية، وتطرح أسئلتها لا بوصفها ألغازًا، بل كأنينٍ داخلي لم يعد يحتمل الصمت، كل شيء يبدأ من الأم، ليس حضورًا جسديًا، بل غيابًا مقيمًا، يُستدعى بصوت ماكينة خياطة، وذكريات طفولة لم تكتمل؛ ثم يأتي غياب الأب لاحقًا، لا ليُغلق الحكاية، بل ليزيدها تصدّعًا. الرواية لا تتوسل بالبكاء، لكنها تتركك تحت ظل حزنٍ بارد، متوارٍ خلف السطور، لا يُعلن عن نفسه، لكنه يلوّن كل شيء حوله، إنه الفقد الذي لا يُقال بل يُكتب بألف طريقة أخرى: في التوتر، في العزلة، في الحنين، وفي الذنب. يحمل الشاب عود الثقاب، وتحترق الشقة. هل فعل ذلك بدافع شخصي؟ هل كانت تلك الجارة العجوز تستحق ذلك؟ الرواية لا تمنح القارئ إجابة، بل تتركه في منطقة التباس أخلاقي، دون إيحاء غاضب من الراوي. الذنب هنا لا يُفهم كحادثة، بل كهوية معلّقة، كخوفٍ قديم يلبس وجه الراوي ويلازمه، هل كان الهدف إعادة تعريف السؤال الأخلاقي: هل نحن ما فعلناه؟ أم ما لم نستطع التخلّص منه؟ إحراق شقة الجارة بدا كقفزة درامية مفاجئة، تفتقر إلى تمهيد كافٍ، وتتناقض مع نغمة الانكفاء المتأنية التي سادت أغلب النص، قد يكون هذا متعمّدًا لإحداث صدمة، أو لإبراز الانفجار الداخلي، لكنه لم يكن متسقًا مع ما قبله؛ كأن الذنب الذي لم يُفهم في الطفولة، يعود لينفجر في النهاية، لا ليُغلق الرواية، بل ليُشعل سؤالها الأخير: ماذا يحدث حين يعجز الداخل عن الاحتمال؟ تظهر الرواية الطبيبة بوصفها شخصية ثانوية لكنها مفصلية؛ جلسات افتراضية، تواصل مهزوز لا يكتمل غالبًا، وأسئلة لا تجد أجوبتها. بدلًا من الشفاء، يصبح العلاج النفسي دائرة أخرى من العزلة، حيث يتم التعامل مع الألم كمنتج، مع الأزمة كفرصة عمل. هذا القلق الوجودي الذي لم تعرف الطبيبة كيف تتعامل معه، ولم تكن مهيأة لمواجهة ذاتِ لا تبحث عن تفسير سطحي، بل تُعيد تشكيل أزمتها داخل اللغة، وتُلبس الألم مفردات فلسفية لا تسهل قراءتها ولا علاجها. تطرح الرواية عدة أسئلة ماذا لو قرر الإنسان الانسحاب من هذا العالم، لا هربًا منه، بل احتجاجًا عليه؟ أن يختار الصمت في زمن الضجيج، والتأمل في عصر السرعة، والعزلة كفعل احتجاجي ضد التوافه اليومية. العمل كتب بأسلوب تيار الوعي، لا حبكة تقليدية، لا تصاعد درامي؛ بل تداعيات، وشذرات فكرية، وتأملات، كل شيء هنا هش، مضطرب، لكنه حقيقي، حتى الفلسفة -وإن بدت أحيانًا مقحمة- لا تأتي بوصفها استعراضًا، بل كوسيلة لفهم الذات أو الاحتماء منها. لغة الرواية شاعرية رزينة، وبليغة وتجعلك مستمتعًا أثناء القراءة وحتى وإن لم تكن من محبي تيار الوعي، على الرغم من أن الرواية حافظت على نسق تأملي ثابت، إلا أن نهايتها كانت صادمة وعنيفة. بقي أن أقول إن رواية "ترف الانكفاء" ليس الانكفاء هنا انطواءً أو انكسارًا، بل هو مقاومة صامتة لعالم مبتذل، يستهلك الإنسان، ويشوّه صوته الداخلي، رواية تعرّي الداخل بلا رحمة، لكنها لا تَعدُ بالنجاة، بل فقط بإضاءة ما لا يُرى.