ثلاثة أعمال صدرت هذا العام في بيروت، تطرح مجموعة قضايا أدبية وجمالية، وتحمل بعض الاضافات الى مسار القصة القصيرة والرواية والكتابة الحرّة. نقدم في ما يلي قراءة لمجموعة حسن داوود القصصية "نزهة الملاك" "دار الجديد"، لنص "حديقة الحواس" "دار الجديد" الذي يحمل توقيع عبده وازن، وأخيراً لرواية الياس خوري الجديدة، "مملكة الغرباء" "دار الآداب". قد لا يكون هناك من علاقة بين مجموعة حسن داوود القصصية ونص عبده وازن الذي هبطت عليه لعنة الرقابة اللبنانية ورواية الياس خوري الاخيرة، سوى كون هذه الاعمال الادبية صادرة في مكان واحد وزمان محدد. أما المكان فهو بيروت، مدينة كل التجارب والرهانات والجراح، والمختبر الذي احترق بالامس بما ومن فيه. ورغم تراجع المدينة اليوم عن دائرة الضوء، لا تزال تجارب مبدعيها وشهود مرحلتها الذهبية - وهم ليسوا لبنانيين حصراً - تعكس أزمات الراهن العربي أكثر من أي وقت مضى، وتطرح أسئلته المعلقة أو المؤجلة. هذه الاسئلة المؤجلة وتلك المراهنات المجهضة هي أيضاً من العناصر التي تحدد الرابط الثاني بين الاعمال الادبية الثلاثة. إنه زمن ما بعد العاصفة: زمن الذهول أو اعادات النظر بالنسبة الى البعض، أو زمن الحياد الظاهري؟ الذي التجأ اليه البعض الآخر... في مجموعته القصصية الاخيرة "نزهة الملاك"، التي تضم خمس قصص "مانوكانات الجزيرة"، "نزهة الملاك"، "خان أنطون بك"، "رجل وامرأة بلون الطين" و"1966" كُتبت بين قبرصوبيروت، يبتعد حسن داوود، عن لغة الحرب وتجربتها الادبية في نقل للواقع المعاش المباشر. بعد تجربته السابقة "ايام زائدة" 1990، يمضي الكاتب في كسر التقليد الذي درج عليه بعض كتاب الحرب الاهلية، مختاراً "الهروب" على طريقة الرواة الشعبيين، مرتفعاً بهمه الادبي عن السائد، ليصوغ لغته الاخرى وأسلوبه المميز. "نزهة الملاك": دور المراقب تتجلّى الكتابة عند حسن داوود، كما يبدو من تجاربه الروائية والقصصية، في متعة تتبّع التفاصيل وأشياء الحياة المنسية، بدقة هي نقطة القوة المركزية لنصّه الادبي. وهو هنا يواصل تطويع أسلوبه متخذاً دور المراقب المتتبع، الساعي الى فهم وتفسير سلوك شخصياته، بحيادية المحلل والباحث. وتواطؤ الراوي مع الحدث، يدفع الى اقامة علاقة خاصة بين القارىء والشخصيات التي "ينبشها" دوماً من مخابئها. نحن معظم الاحيان أمام شخصيات عادية، بسيطة، تعيش حولنا قبل أن يسلط عليها الضوء. لذا يمكن القول إن داوود، لا يهتم بتقديم أبطال، بقدر سعيه الى تعرية نماذجه البشرية، بتصرفاتها وعلاقاتها، والى النفاذ الى عوالمها الداخلية عبر الوصف والملاحظة والسرد االبريء في الظاهر، الذي لا يلبث أن يثير فضولنا أو ينبّهنا الى خلل ما يصعب تحديده، فيقحمنا من حيث لم نكن نتوقع في الجدل المثار بين الشخصيات وحولها. فمناخات مجموعته القصصية الجديدة، تقوم على نقل ايقاعات علاقة صديقين هما فريسة للملل والغربة في جزيرة ضائعة... على تصوير مناخات الطفولة وسلوكياتها من خلال تداعي شريط الصور، على سبر أغوار نظرة امرأة واختبارها في لحظة قبول ورصد تصرفاتها... على القيام بجولة في ذاكرة مكان قديم، من خلال اسمه، فاذا بالامكنة تكتسي أبعاداً ومضامين فلسفية... الخ. والجديد في نتاج داوود هو اللجوء الى جمل معقدة مركبة حيث كان يعتمد سابقاً أسلوب التوالي، والابحار في خضم التفاصيل بلغة هادئة متزنة، غير لاهثة الجمل. فهل هو تأزم الحالة الداخلية أم تعقيد الافكار والحالات، جاء ليكسر انسياب لغة السرد الافقية؟ "أتعاطى مع حقل أفكار - يجيب الكاتب - ومن أجل ابراز هذا الحقل عمدت الى هذا العمل التركيبي الذي يبدو معقداً". والمؤكد أن هذا التحول في بنية النص لدى داوود، تستحق وقفة على حدة ومقاربة أكثر تمهّلاً وتعمّقاً. أما الاضافة الاخرى التي تحملها المجموعة، فهي التقنية التي يستعيرها الكاتب من لغة السينما، وخاصة في قصص مثل "1966"، "خان أنطون بك" و"نزهة الملاك". يقوم داوود بخلق مناخات مرئية من خلال وصفه لمشاهد وحالات حيّة، كأننا به استخدم الكاميرا لكتابة قصصه. ويعتمد في لقطاته الحركة البانورامية، كما يركز على عملية تقطيع المشهد، ويلجأ الى تقنية "الزوم" اقتراب أو ابتعاد العدسة من موضوع الصورة، أو تلك المسماة "إنسرت" لقطة تدخل بين لقطتين وتشكل اضافة على المستوى الروائي... "حديقة الحواس": الانكفاء عن العالم الخارجي... أما "حديقة الحواس"، نص الشاعر عبده وازن فيبدو تناوله عملية غاية في الدقة والصعوبة. فما الذي يمكن قوله، على مستوى الكتابة الابداعية، عن نص تمّت مصادرته، في زحمة ما أثاره من زوابع وضجيج اعلامي لا يخدم نبرته الاختبارية ولا توجهه السرّي والذاتي الحميم؟ نص وازن مزيج من أنواع وأصناف أدبية مختلفة. فهو يُدخل في بنيته عناصر مستعارة من القصة والرواية في آن، كما يستمد من الشعر زخمه وشفافيته وانسيابه. يروي الشاعر من خلال نصه المفتوح، انسحاباً انسانياً يائساً لرجل وامرأة، في أجواء الحرب، أما العلاقة بينهما فتأتي لترسخ عملية الانكفاء عن العالم الخارجي. وتعكس التجربة أصداء مراجع مهمة تنتمي الى كلاسيكيات الادب العربي والعالمي، من "لسان العرب" و"تحفة العروس"، الى "الكماسوترا" وأعمال جورج باتاي وموريس بلانشو... ما جعل النص أشبه بلوحة شعرية شفافة تغوص على جراح الحرب. فالشخصيتان بحاجة الى الاتحاد، وهذه العزلة تبدو الملاذ الاخير الممكن لمقاومة عنف الخارج، الذي نحس به ولا نراه. ابتعد وازن عن نقل الحرب بصورتها المباشرة في سياق سرده، مستعيضاً عن صورة العنف بما أحدثه هذا الاخير في الذات الانسانية من شروخ، نتلمسها في خراب العلاقة الصامتة الغريبة بين شخصيتي النص الهاربتين في توحدهما. من ناحية أخرى، تميز نص وازن بوقع قريب من السريالية، كأنما للتأكيد على أن "الكتابة هي الرغبة في الكتابة، هي اللذة المفاجئة التي تعتريك فيما أنت تستسلم لها بهدوء". إنها محاولة لالتقاط الشبه بين مختلف مستويات الرغبة عبر الكتابة. وحدها قراءة نص وازن تمكننا من تلمس هذه المقاربة: "حين غادرت تركت وراءها كل شيء. نظرت الى الامام وغادرت، لم تنظر الى الوراء. فتحت الباب ورحلت صامتة تماماً كما جاءت صامتة... حين غابت أدركت معنى حضورها... حلّ غيابها عليّ فجأة ووجدت نفسي مرتبكاً... ربما شعرتْ هي أنها نجت وربحت نفسها، في حين شعرت أنني خسرت كل شيء". "مملكة الغرباء": الرواية كجزء من الحبكة في رواية الياس خوري "مملكة الغرباء"، يستعيد الكاتب أسئلته حول المكان، القيم، الانسان والحب... وذلك داخل الرواية وحولها، معبراً عن كل ذلك بلغته الخاصة التي صنّفها بعض النقاد في موقع قريب من "الرواية الجديدة" في فرنسا. كما أن الراوي في العمل الاخير، هو كالعادة شخصية قائمة بذاتها، لها دورها في التطور الدرامي وتتدخل في سياق الحبكة وتطوّر الاحداث. وعلى طريقة الحكايات الشعبية، يتشعّب الحدث في رواية خوري الى أحداث، فتكون الحصيلة نسيجاً معقداً تتقاطع فيه مستويات السرد وتتضارب أو تتكامل. والكاتب - الراوي ينتقل بنا، بنبرته الحيادية، من حكاية الى أخرى. فاذا بالرواية تزدحم بالشخصيات الاساسي منها والهاشمي، وتحفل بأحداث بعضها أقرب الى الاخبار أو الشائعات التي نمر بها على عجل، من دون الوقوف على تفاصيلها. فالراوي لا يسعى إلا الى الحقيقة، ولا يعبأ إلا بحكاية واحدة عنوانها فلسطين، وحدها الرابط بين كل تلك العناصر والصور والملامح والحكايات، وحدها تشكل جسر عبور بين التاريخ والاسطورة الشعبية. ولتحقيق هدفه يلجأ الكاتب الى مكونات بنائية وتقنيات عهدناها به في أعماله السابقة، محاولاً عدم الانزلاق الى فخ نص كأنه جسر يفضي الى واقع آخر. ولعبة التغريب هذه، ليست بجديدة على قرّاء الياس خوري الذين اعتادوا التنقل بين الاحداث والازمنة، والتجليات المختلفة للحقيقة الواحدة. ويمزج هذا الروائي أخيراً، بين ايقاع السرد المنفلت ومقتضيات البحث والتوثيق ومطاردة خيوط حكاياته. وتنعكس ملامح من معايشته الميدانية على النص، كما تسجّل الرواية ذاكرة أحداث وشخصيات واقعية، ومواقع قضت عليها الحرب في لبنان. بالمقارنة مع روايته السابقة "رحلة غاندي الصغير"، يطغى هنا الهم التسجيلي للكاتب على المتطلبات الجمالية للعمل بما هو شكل فنّي قائم على مجموعة تقنيات وأساليب. ولعل السؤال الذي ينتهي اليه الكاتب يفتح من جديد كل المجالات والاحتمالات أمام القارئ: "هل هذه الارض التي اسمها فلسطين، هي مجرد حكاية تسحرنا بأسرارها وطلاسمها؟ ولماذا حين نستمع الى هذه الحكاية لا ننام... بل نموت؟".