وزير الاقتصاد والتخطيط يبحث مع الوزيرة الاتحادية النمساوية للشؤون الأوروبية العلاقات الثنائية بين السعودية والنمسا    ارتفاع أسعار النفط إلى 84.22 دولارا للبرميل    رونالدو يعلق على انجازه في الدوري السعودي    رياح مثيرة للأتربة على الرياض    "الشؤون الاقتصادية": اكتمال 87% من مبادرات الرؤية    "البحر الأحمر" تسلم أول رخصة ل"كروز"    المملكة تفوز بجوائز "WSIS +20"    الدوسري: التحديات بالمنطقة تستوجب التكامل الإعلامي العربي    الهلال يمًدد تعاقده مع جورجي جيسوس    القادسية يتوج ب"دوري يلو"    إضافة خريطة محمية الإمام لخرائط قوقل    وزير الداخلية يدشن مشروعات حدودية أمنية بنجران    حفل تكريم طلاب وطالبات مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية بالمنطقة    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    للمرة الثانية على التوالي.. إعادة انتخاب السعودية نائباً لرئيس «مجلس محافظي البحوث العالمي»    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    سعود بن نايف: الذكاء الاصطناعي قادم ونعول على المؤسسات التعليمية مواكبة التطور    المملكة تدين مواصلة «الاحتلال» مجازر الإبادة بحق الفلسطينيين    رفح تحت القصف.. إبادة بلا هوادة    مؤتمر بروكسل وجمود الملف السوري    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    أمير الرياض ينوه بجهود "خيرات"    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    «جائزة المدينة المنورة» تستعرض تجارب الجهات والأفراد الفائزين    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي اليوم    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    تتويج الفائزين بجوائز التصوير البيئي    70 مليار دولار حجم سوق مستحضرات التجميل والعناية الشخصية الحلال    في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي.. أولمبياكوس يتسلح بعامل الأرض أمام فيورنتينا    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    ولاء وتلاحم    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    إخلاص وتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة في ذكرى رحيله العاشرة شارك فيها كتاب ونقاد لبنانيون . متى يرفع الظلم عن الروائي الرائد يوسف حبشي الأشقر ؟
نشر في الحياة يوم 17 - 11 - 2002

مضت عشر سنوات على رحيل يوسف حبشي الأشقر 1929-1992 الروائي اللبناني الطليعيّ الذي أسس الرواية اللبنانية الحديثة ورسّخ أفقها الجديد انطلاقاً من تراث الروائيين والقاصين الأوائل الذين كان خير وارث لهم من أمثال مارون عبّود وخليل تقي الدين وتوفيق يوسف عوّاد وسواهم.
كان يوسف حبشي الأشقر جيلاً بذاته، روائياً رائداً في مرحلة لم يبرز فيها سوى أصوات قليلة لم تخض الفن الروائي مثلما خاضه هو، بجرأة وعمق وقوة، مرتكزاً الى ثقافته الواسعة واختصاصه في الحقوق والفلسفة والى وعيه السياسي والفكري والى تجربته الفريدة التي جعلت اللغة صنو الحياة.
ولئن كان يوسف حبشي الأشقر ولا يزال في طليعة الحركة الروائية اللبنانية الحديثة فإن بعض الظلم حلّ به لبنانياً وعربياً تبعاً لتجاهل موقعه الرياديّ وتناسي أعماله التي تفترض قراءتها بعض الجهد والمثابرة نظراً الى ضخامتها وعمقها وابتعادها عن الصرعات العابرة والنزعات الأكزوتيكية والسطحية. أما الظلم الآخر الذي لحق به فهو تغاضي الناشرين العالميين والمترجمين عن أعماله الروائية التي تتطلب ترجمتها الكثير من المعرفة والمراس والالمام بعالمه الروائي وأبعاده الواقعية والميتافيزيقية.
في الذكرى العاشرة لرحيل الأشقر ارتأت لجنة تكريمه وقسم الانسانيات في الجامعة اللبنانية - الأميركية بيروت ان تُعقد ندوة تكريمية له خلال يومين في مبنى الجامعة. وكان الافتتاح في الثالثة من بعد ظهر أول من أمس الجمعة وتخلل حفل الافتتاح كلمتان من الناقد والأكاديمي لطيف زيتوني ومن الناقدة والاكاديمية سميرة أغاسي.
أما الجلسة الأولى فشارك فيها النقاد: جورج دورليان، رفيف صيداوي وسامي سويدان وأدارها محمد دكروب. والجلسة الثانية شارك فيها النقاد: لطيف زيتوني ويمنى العيد وهنري العويط وأدارها أسعد خيرالله. أما الجلسة الاخيرة فكانت في اليوم الثاني أمس السبت وكانت عبارة عن شهادات من: الروائي الياس خوري والروائي رشيد الضعيف والشاعر والناقد عبده وازن وأدار الجلسة الروائي محمد أبي سمرا. وفي ختام اليوم الثاني زار جمع من المشاركين في الندوة التكريمية بلدة يوسف حبشي الأشقر بيت شباب وعرّجوا على مقبرته حيث وضعوا باقة ورد، ثم على بيته حيث كان اللقاء بأفراد عائلته.
تحدث في جلسة الافتتاح الناقد والأكاديمي لطيف زيتوني قائلاً: ان سنوات غياب حبشي الاشقر "أحد آباء الرواية اللبنانية المميزين، عرفت فيها الرواية الكثير من النقد وتحليل الشخصية التي هي جوهر البناء الروائي لدى الغائب". ثم أعقبته رئيسة قسم الانسانيات في الجامعة الناقدة سميرة أغاسي فقالت ان القسم اجرى نشاطات ثقافية حول عناوين معينة "وهي المرة الأولى التي تنعقد فيها حلقة لمناقشة نتاج كاتب واحد. وتجمع هذه الحلقة اضافة الى الجلسات زيارة لمنزل حبشي الاشقر ومدفنه في بيت شباب".
أما الجلسة الأولى فدارت حول "الذات والآخر في ثلاثية الاشقر "أربعة افراس حمر" و"لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى".
قدم الجلسة الناقد محمد دكروب ورأى في روايات حبشي الاشقر الثلاث ومجموعته "المظلة والملك وهاجس الموت" تجلياً لتصارع الافكار عبر تصارع الشخصيات التي تعيش عصرها ومناخاتها غير محصورة في الاطار المحلي. وروى دكروب كيف تعرف الى الاديب الراحل عبر القاصّ الراحل فؤاد كنعان وكيف تشبه شخصياته في حواراتها القلق الذي عاشه مع اصدقائه، اذ كان يوسف حبشي الاشقر غير مؤمن بتاتاً بالمؤسسات دينية كانت أو حزبية أو مدنية، ومناقشاً للافكار والفلسفات التي عايشها من وجودية وماركسية وسواها".
المداخلة الأولى كانت للناقدة رفيف صيداوي حول "الحرب المدموغة باشكالية الافراد مع الزمن". وقالت ان حبشي الاشقر ومنذ روايته الأولى "أربعة افراس حمر" تكرس "رائداً للرواية الحديثة خارجاً عن الاطار التقليدي للرواية، وان الكاتب الراوي في ما كتبه على رغم عدم غيابه وحضوره، فقد معه فعاليته فهو لم يعد قابضاً على الحقيقة لأنه لم يعد يدعي هذه الحقيقة. ورأت ان قلق الشخصية الروائية لديه وعدم اكتمال بحثها عن ذاتها ساهما في تجريده من سلطة الكاتب الراوي". ورصدت نقاطاً ميزت رواياته منها تكسير الزمن وغياب الحقائق في كتابته عن الحرب اللبنانية في "الظل والصدى" وفشل الشخصيات في تحقيق ذواتها وغياب الذات المنزهة، والرغبة في التغيير.
أما الناقد جورج دورليان فكانت مداخلته تحت عنوان "إشكالية البحث عن الهوية"، فرأى في شخصيات "أربعة افراس حمر" الأربع انقطاعاً عن الخارج وتوجهاً نحو الذات الداخلية يفسرها مكان لقائهم والحوار وهم من مهن مختلفة في المقهى. وعرض لكل شخصية في مشكلتها مع الذات ومع الاب الغائب ومع الأم.
وقال انه على رغم ان الرواية تدور احداثها في المدينة بكل مظاهرها، تبقى المدينة غائبة كتشكيلة حية أو عمارة للرواية، وبالتالي فإن بنية الرواية الفعلية داخلية، والشخصيات القادمة من الريف أو الضواحي تعاني مشكلات مع ذواتها اكثر من كون مشكلاتها نابعة من الانخراط في عالم المدينة.
ورأى انه اذا كان الثابت في رواياته محور البحث عن الهوية، فهي الحلقة الأولى من سلسلة مخيلة الرواية اللبنانية حيث لدى حبشي الاشقر تغير الاسلوب والاطار الفكري الذي تدور حوله الرواية، كما تميز بالجرأة اذ تكلم ببساطة واستهزاء عن الله والدين والطقوس والمساكنة والعلاقات المثيلة وسواها دون اتخاذ موقف أخلاقي من هذه السلوكيات.
ومن حيث بنية الرواية، رأى دورليان ان الحوار يحتل عنده مكاناً طاغياً بل متفشياً.
وعرض الناقد سامي سويدان لوجهة نظر حبشي الاشقر حيال الحرب اللبنانية عبر روايته "الظل والصدى" حيث تمثلت سياسياً برفضه الانتماء الى مؤسسة حزبية يسارية كانت أو يمينية، بل قدم موقفه عبر شخصياته مظهراً كيف انها، وان كانت في مواقع مضادة، كل منها تؤدي الى مأزق.
وعرض لرؤية حبشي الاشقر التاريخية والاخلاقية، وقال ان الأديب تأثر بالمسيحية حيث العرض التاريخي لمفهوم الخير والشر منذ قايين وهابيل كما لو انه كان مقدراً ان يبقى قايين ونكون من اولاده، ثم البحث عن الخلاص بالافتداء وهنا طرحت في الشخصية مسألة الانتحار، والانتحار على فرديته هو خلاص للبشرية.
الجلسة الثانية
الجلسة الثانية دارت حول "بناء الشخصية القصصية". واعتبر الناقد اسعد خيرالله ان الشخصية القصصية معقدة وتضاربية. وكانت مداخلة للناقدة يمنى العيد التي انطلقت من مفهوم نقدي يرى ان بناء الشخصية يجسد رؤية الرواية للعالم من منطلق نظري. وتناولت رواية "الظل والصدى" معتذرة عن عدم تناولها مجموعة قصصية، واعتبرت ان فيها رؤية نقدية للحرب عبر شخصية "اسكندر"، هذه الشخصية التي وجدتها تأتي من شخصية أخرى في "لا تنبت الجذور في السماء" قبل الحرب، وفي "الظل والصدى" شهدت تحولات، ولاحظت ان العالم حول الشخصية مختلف انما الشخصية هي ذاتها.
وعرضت للتغيير في الوصف والشكل للشخصية من الرواية الأولى الى الرواية الثانية وعزت هذا التحوّل الشكلي الى معايشة الشخصية للحرب.
واضافت ان الكاتب قدم في "الظل والصدى" موقفاً واضحاً من الحرب في حين ان الروائيين الآخرين لم يقدموا موقفاً لها انما وصفوا المشهد، "اضافة الى انه قدم المعرفة وتجاوزها الى نوع من الدستور هو الايمان بالنسبة الى الانسان بأن هويتنا وحريتنا هنا وهنا فقط، ايمان بأن العالم في حاجة الى خميرة تفديه يوماً وبأن الحياة مشوار متعة وفرح بالخليقة لا ميدان سباق". ولفتت الى تغير اسكندر ولموقفه من الحرب كصورة، وكراهية الآخرين له واعتباره يوضاس وكاذباً وكلباً، وعلى هاتين القاعدتين يبرز اسكندر مختلفاً وغريباً .... هو لا يشبه احداً انما الآخرون متشابهون في الصدى. هو مفرد مثال لمثقف ليس في مستطاعه ان يفعل شيئاً حين يكون الجميع مع الحرب فيما هو ضدها، هو مفرد انما ليس بطلاً بل مجرد مواطن لبناني يعاني اثر الحرب فيه". وسجلت انه في النهاية يعود اسكندر الى ما هو عليه، الى بيت أبيه.
وتناول الناقد هنري عويط شخصية الكاتب في "المظلة والملك وهاجس الموت" ورأى ان شخصياتها على تعددها "ترتبط كلها بشخصية محورية واحدة وهي التي تعبر المجموعة عنها، من السطر الاول الى السطر الاخير فيها، بضمير المتكلم أنا. والأنا هو البطل والراوي، بل هو الكاتب".
واضاف: "قيل في الكتاب انه كتاب الحرب، كتاب بشاعاتها وضحاياها، وانه بامتياز كتاب اعلان عبثيتها. وهذا كله صحيح. دعوني اضيف انه من اوائل المؤلفات القصصية التي تناولت موضوع الحرب في لبنان، ولعله، في تكريسه نصوصه العشرة بكاملها لها، وفي رفضه التام لكل ما يمت اليها بصلة، اول هذه المؤلفات على الاطلاق. ولكن "المظلة والملك وهاجس الموت" ليس كتاباً طليعياً بسبب أسبقيته هذه فحسب، بل لأنه اولاً، وقبل اي أمر آخر، وفوق اي اعتبار آخر، النص العربي الموقوف بكامله، من الاقصوصة الأولى الى الاقصوصة الاخيرة فيه، ومن الفه الى يائه، للكتابة وشؤونها وشجونها، وللكاتب واحواله في ممارستها، ولما بينها من علاقات معقدة وملتبسة".
وأشار عويط الى المواقع التي خصصها حبشي الاشقر في كتابه للتحدث عن فعل الكتابة بما يشبه البيان الادبي حيث يحدد موقفه من الكتابة ومفهومه لطبيعتها وعلاقته بقرائه، ورأيه في تقنياتها واشكالها ولغتها ومفرداتها ودوافعها ومسوّغاتها ووظيفتها وجدواها. وتحدث ايضاً عن طقوس الكتابة لدى الكاتب الراحل التي ظهرت ايضاً في الكتاب وعلاقته الخاصة بها، "فهي أكثر من هواية وأشد استئثاراً من مهنة يمتهنها الانسان، هي جوهر حياته. وفي المقابل هو يقر بالتقصير وبعدم الرضى عما حققه ويقدم تحت وطأة هذا الشعور على تمزيق الاوراق التي سودها ويعيد الكتابة".
وتناول عويط حديث يوسف حبشي الاشقر عن الكتابة من جهة واجزاء النص معتبراً انها جاءت موحدة اذ اندمج الراوي ببطله وامتزجت اليوميات بالمتخيل، والسيرة الذاتية بالقصة، "فبناء النصوص جاء بهندسة متشابهة بين نصوص الكتابة عن فعل الكتابة وتلك الوليدة عن فعل الكتابة، والانتقال بينهما تم في شكل عفوي لغياب الحواجز والحدود بينهما".
وفي ختام اليوم الأول، تحدث الناقد والأكاديمي لطيف زيتوني ورأى ان في كل عمل من اعمال حبشي الاشقر "شيئاً من بطله وشيئاً من نفسه، وثمة شخصية مركزية تبحث عن نفسها فلا تجدها، تبحث عن الصفاء، عن الله فلا تجد الا الفراغ". وفي الثلاثية الروائية "سيرة جيل مختصرة في سيرة شخصية واحدة، وتجمع الثلاثية حلقة منفردة عصية على التصنيف، تنطلق من الأنا الملعونة التي قتلت الاله كي تتأله لكنها انتهت بالسقوط والعجز".
واعتبر ان الروائي الراحل "في غالب الظن ينطلق من صور لا من ملاحظات مدونة، فهو يتوجه الى خيال القارئ لا الى ذاكرته من خلال المشهد الحواري". ورأى ان في الثلاثية "الشخصية الجائعة التي تطورت، بفعل الزمن من الجوع الى الطعام الى الجوع الى الجنس، فالتأله، وهنا سقطت". واضاف ان مشكلة هذه الشخصية ليست الجوع، "فالجوع الاكبر والتخمة المشتهاة كانا يمثلان الشعور بالقوة، والكتابة هي الوسيلة الوحيدة للقوة، لكن الحلم، حين يتطرف، يوصل الى الخيبة".
شهادات كتّاب
في اليوم الثاني من الندوة التكريمية حملت الجلسة الوحيدة عنوان "شهادات في يوسف حبشي الأشقر" وشارك فيها:
وجاء في شهادة الياس الخوري: التقيت يوسف حبشي الاشقر للمرة الأولى عام 1979، في ندوة نظمتها دار الفن والادب عن الرواية اللبنانية والحرب. يومها تحدث الاشقر عن الموت، لم يقل شيئاً عن تجربته الأدبية، قال ان كل شيء فيه مات، وانه فقد الرغبة في كل شيء. لم أفهم يومها كيف يفقد الكاتب الرغبة في الاشياء ويستمر في الكتابة. لكنني شعرت بحزن عميق وصارت الكلمات تتلعثم بين شفتي، وأنا أحاول ان أقرأ مداخلتي عن الكتابة في زمن الحرب.
بعد عامين أصدر الأشقر كتابه "المظلة والملك وهاجس الموت"، حيث جسد بطريقة مدهشة علاقة الكاتب بالكلمات، وعلاقة الكتابة بالموت.
بعد ذلك بأربعة اعوام، التقيته للمرة الثانية في منزل أحد الاصدقاء المشتركين، كان يجلس منحنياً على غليونه، ينفث الدخان، ويحتسي قليلاً من الويسكي ولا يتكلم. ثم التفت إليّ، وسألني عن الموقف. قال انه قرأ روايتي "الوجوه البيضاء"، وانه رأى فيها شيئاً جديداً، ولكن أين الموقف، سألني. لم أعرف ماذا أجيب. عن أي موقف يسألني، وكيف يكون هناك موقف، والحرب تطحن كل الابطال وتحيلهم ركاماً.
قلت أنني لم أفهم ما يعنيه بالموقف. لكنه بدلاً من ان يوضح رأيه، أخذ مجة من غليونه ونظر الى البعيد.
عام 1989، اصدر الاشقر روايته "الظل والصدى"، وعندما قرأتها فهمت اعتراضه، وان لم أوافقه الرأي.
ثم بعد ذلك صرنا اصدقاء، أو لنقل صرنا كالاصدقاء. لا أعتقد انه في عزلته الاختيارية في بيت شباب كان مستعداً لاقامة صداقات جديدة. كنت أراه متوتراً بالصمت والعزلة، أحكي واستمع اليه، لكن ذلك الشعور بأن الرجل يكلمني من مكان بعيد، وانه ليس مستعداً لمغادرة مكانه، والاقتراب من صداقة جديدة، لم يفارقني قط.
استطيع الآن بعد موته بعشر سنين، فهم تلك الصداقة الغامضة بوصفها اجتماعاً للحظتين:
اللحظة الأولى هي انبهاري بالكيفية التي يتحوّل فيها الكاتب مكتوباً. كنت أحكي معه عن شخصيات رواياته وكأنها شخصيات حقيقية، وكان يذهب في اللعبة الى نهاياتها. لا أعتقد انه كان يلعب، فلقد احتلته الشخصيات الى درجة التماهي، وصار هو مرآتها وكلامها وأحاسيسها وموتها. روت لي ابنته مايا انه قال لها قبل موته انه يخشى ان يكون اسكندر قد غلبه. كأنه كان مسكوناً بموت اسكندر في المقبرة، أو كان ذلك المشهد الختامي من رواية "الظل والصدى"، كان المشهد الاخير الذي احتلّ وعيه وذاكرته، فأخذه الى الموت.
اللحظة الثانية، هي ذلك الشعور الذي انتابني بضرورة الانتماء الى سلالة من الأدباء. في أواسط الثمانينات كانت الرواية اللبنانية الجديدة، لا تزال في بداياتها، وكنت أشعر ان تلك البدايات تحتاج الى بداية. رأيت في يوسف حبشي الاشقر وسهيل ادريس وفؤاد كنعان احتمالات بداية تاريخ أدبي نستطيع ان ننتسب إليه. لكنني كنت حالماً كي لا أقول واهماً. معه، في بيته العتيق في بيت شباب، اكتشفت ان سلالتي هي الشظايا، وان الانتماء الى تاريخ أدبي يحتاج الى انتماء الى تاريخ سياسي واجتماعي. وان هذه الارض المجبولة بالمآسي والدمار، لا تصنع لنا تاريخاً.
في تداخل هاتين اللحظتين، تعرفت الى كاتب ميزته انه يشبه أبطال رواياته، وانه صدّق الكتابة الى درجة التماهي، فصار هو اسكندر بدل ان يكون اسكندر ابناً لخياله، خرج من تخيل الشخصيات الى الواقع، وتحوّل ضحية للكتابة، التي كانت بدورها ضحية الاسئلة والموت".
وفي شهادة عبدو وازن: عشر سنوات على رحيل يوسف حبشي الاشقر! هذا زمن ليس بالكثير. هل نسينا يوسف حبشي الأشقر كي نتذكّره؟ طبعاً لم ننسه ما دامت أعماله بين أيدينا وصورته ملء عيوننا! كأنما يوسف عبر موته المأسوي، أضحى شخصية من شخصياته، تلك التي عاشت دوماً مثله - أو هو عاش مثلها - على الحافة: حافة الحياة، حافة الانتحار، حافة الانتظار، حافة القلق والعيش واليأس والحيرة... أقول موته المأسوي، موته الذي يشبه في ناحية ما، موت يوسف بطل رواية "أربعة أفراس حمر" الذي ظل مثاراً للشك في ان يكون غرقاً أم انتحاراً، أجل أقول موته المأسوي لأنه شاءه وعاشه مفتوح العينين، شاءه لا خلاصاً من واقعه الاخير، المحفوف بالألم فحسب بل ليصبح هو نفسه نصّ الموت، الموت الذي كان هاجسه القديم.
اصدقاء يوسف حبشي الاشقر يعلمون انه عرف في الآونة الاخيرة حالاً من اليأس لم يعرفها في السابق. خانه جسده بعد ان خانته الحياة الذي لامس ذروة انهيارها. ولم يكد ينهي روايته "الظل والصدى" حتى خامره احساس عميق في لا جدوى الكتابة. وهو إحساس رافقه اصلاً طوال تجربته القصصية والروائية. وتعمق الاحساس هذا أكثر فأكثر في المرحلة الاخيرة حين عجز الجسد عن مجاراة الروح القلقة، كان يشعر انه في حال انفصام بين جسد ينحدر وينهار وروح تنهض وتندثر باستمرار. وكان يدرك بصمت ان مرضه سيجعل لحياته طعماً مراً، طعماً رمادياً كما يعبّر عنوان مجموعته القصصية الأولى. ولم يتوان عن إعلان يأسه من الكتابة تماماً كبطله اسكندر الذي توقف عن الكتابة في رواية "لا تنبت جذور في السماء" وقتل لاحقاً في رواية "الظل والصدى" في جحيم الحرب الاهلية.
الا ان الاشقر الذي أعرب مرات كثيرة عن تململه من الكتابة ويأسه منها كان غزيراً في نتاجه. وقد كرّس حياته للكتابة. لم يتمكن من استيعاب وجوده وقضاياه الا ككاتب يطرح السؤال تلو السؤال ويحاول الإجابة متوهماً حيناً، بائساً حيناً، موعوداً بأمل ما حيناً آخر".
أما مداخلة الروائي رشيد الضعيف فتركزت على مفهوم الأبوة الروائية ثم انتقل بعدها الى الكلام عن الخلفية العامية التي تقوم عليها قصصه الروائية القروية المنبت. وانطلق من ثلاث جمل هي بمثابة نقاط نقاش حول اشكالية العامية والفصحى في التعبير الأدبي.
وتخلل الجلسات كلها حوار شارك فيه عدد من الحاضرين وهم ينتمون الى الحياة الأدبية والأكاديمية. وشملت الأسئلة عالم يوسف حبشي الأشقر وشخصياته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.