اشتهر ريتشارد إي نيسبت، وهو عالم نفس اجتماعي أميركي حائز على جائزة دونالد ت. كامبل للبحث المتميز في علم النفس الاجتماعي، بأطروحته حول «التقارير اللفظية عن العمليات العقلية» الذي شاركه فيه مواطنه تيموثي دي كامب ويلسون. وتلك الأطروحة معدودة من الأدبيات الرائدة في الحجج التي تؤيد أن مجموعة كبيرة ومتنوعة من العمليات العقلية من شأنها أن تكون مسؤولة عن التفضيلات والخيارات والعواطف، على نحو غير متاح للإدراك البشري الواعي. وكما في كتاب نيسبت «التفكير - مذكرات» نجد أنه يجادل بأننا نحن البشر غالبًا لا نعرف حقًا لماذا نفكر أو نقرر ما نفعله، لكننا نخترع لذلك روايات عقلانية بعد الفعل. وهو يؤمن بأن التفكير البشري مليء بالتحيزات والأوهام، ويمكن تحسينه عبر أدوات معرفية بسيطة. وبأن الثقافة تُشكّل نمط تفكير الفرد بعمق، والأهم أن التفكير الشرقي والغربي يتبعان مناهج عقلية مختلفة، داعيًا إلى الوعي بحدود العقل وتطوير الذات عبر فهم آليات التفكير غير الواعي. ومهما يكن من أمر، فالذي ينبغي هو أن نتنبه على أن الأطروحات التي يقدمها ريتشارد نيسبت، والتي تتغنّى بالتنوّع الثقافي واحترام أنماط التفكير المختلفة، إنما تنبع من سياق غربي خاص، أي: من مجتمعات أنجزت مشروعاتها الحداثية الكبرى، وأتمت بناء دولها ومؤسساتها العلمية والاقتصادية، وانتقلت إلى مرحلة ترف الفكر ونقد الذات على سبيل السجال الفكريّ الحرّ. ففي الغرب أصبحت مفاهيم مثل الحرية الفردية والتقدّم العلمي حقائق راسخة إلى حد بعيد، وصار بالإمكان أن تنتج الجامعات تيارات فكرية ترَفيّة، تنادي بالنسبية والتعدد والتلاقح بين الثقافات، دون أن يهدد ذلك منجزات الغرب الحضارية العميقة. أما في العالم النامي، حيث لم تعمل الحداثة بشكل حقيقي، وحيث لا تزال بعض الدول هشّة، والاقتصاد في بعضها تابع، والعِلم في أكثرها في طور التأسيس؛ فإن تبنّي مثل أطروحات نيسبت قد يعني ببساطة «شرعنة» التبعية والتخلف الثقافي والاقتصادي، وتجميل واقع الضعف بدل السعي إلى تغييره. لقد كان الرجل الأبيض في القرن التاسع عشر يتحدث عن «الاحترام العميق» لثقافات الهنود الحمر، على حين كان يسحقهم اقتصاديًا وعسكريًا وديموغرافيًا. وكان يُبدي إعجابه بالحِكمة البدائية، وهو في الوقت نفسه يدمّر وسائل عيشهم ويستولي على أراضيهم. وهكذا فإن الدعوة الغربية اليوم إلى «الحوار بين الثقافات» تشبه إلى حد بعيد تلك النبرة القديمة: احتفال بالآخر المختلف مع الإبقاء عليه في موقع الضعف. وفوق ذلك، فإن نيسبت، رغم نقده الظاهري للأحادية، يقع في تصور أحادي آخر؛ حين يقدّم تفسيرًا واحدًا لاختلاف العقول، متمثلًا في البيئة الاجتماعية والثقافية، متجاهلًا الجذور المادية والتاريخية للصراع بين الشعوب. إن الذي يعيش في قصور الحداثة يمكنه أن يحتفل بالتنوع الليبرالي بأريحية، أما الذي ما زال يبحث عن مقومات السيادة الحضارية فليس أمامه إلا أن ينظر إلى العالم الواقعي بمنظار «التنافسية التنموية القادرة على التأثير والدفاع عن نفسها»، لا بمنظار التسامح الزائف. وفي كل عصر تتجدد الأحلام نفسها، بين دعوات إلى الانفتاح ونداءات إلى الحوار وطموحات لبناء عالم تتقارب فيه الحضارات كما تتعانق الأنهار في مصب واحد. وقد كان مثقفو الغرب، منذ عصر عصبة الأمم وحتى هيئة الأممالمتحدة، يحلمون بتجاوز الحدود التي رسمها الدم والحديد، ويحلمون بأن تتلاقى الثقافات لا على موائد الحرب، بل على موائد الفهم المتبادل. لكن التاريخ، كعادته، ظل يسخر من هذه الأحلام حين تدق طبول الأزمات، مثلما يحدث عند أول أزمة دولية، وعند أول صراع على النفط أو الهيمنة أو الأسواق، حيث تُطوى مواثيق الحوار ويعود منطق الصراع إلى مسرح العالم، وتبرز على الساحة كلمات ليست غريبة على مسمع البشرية على الإطلاق، مثل: الحصار، والتدخل العسكري، والبند السابع، وتغيير الأنظمة. هذا ما علّمتنا إياه عصبة الأمم، وأكّدته هيئة الأمم. وهكذا يواصل العالم دورته: يُحلم في زمن الرخاء، ويحزِم في زمن الشدة. * باحث وروائي غلاف كتاب مذكرات التفكير ريتشارد إي نيسبت