نظّم كرسي اليونسكو لترجمة الثقافات في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، بدعم من هيئة الأدب والنشر والترجمة، دورة تدريبية ومجموعة محاضرات متخصصة حول ترجمة وحفظ التراث الثقافي غير المادي، يومي الثلاثاء والأربعاء 25 و26 جمادى الآخرة 1447ه (16 و17 ديسمبر 2025م)، في الرياض. وجاءت هذه الفعالية بوصفها برنامجًا معرفيًّا متقدمًا يجمع بين البعد النظري والتطبيق العملي، ويفتح أفقًا لنقاشً معمّق حول إشكاليات ترجمة التراث غير المادي بوصفه تراثًا حيًّا متجددًا، لا ينفصل عن سياقاته الثقافية والاجتماعية والأدائية. وتركزت أعمال الدورة والمحاضرات ضمن مقاربة شاملة ترى الترجمة أداةً ثقافية لصون الذاكرة الشفهية، وبناء الجسور بين الخصوصية المحلية والأفق العالمي، عبر نماذج تطبيقية، وخبرات ميدانية، وأطر مفاهيمية معاصرة. في المحور الذي حمل عنوان «ترجمة القصيدة النبطية الغنائية الجديدة: استدامة التراث غير المادي من خلال شعر بدر بن عبدالمحسن البدوي»، تناولت الدكتورة منيرة الغدير، رئيس كرسي اليونسكو لترجمة الثقافات، إشكاليات ترجمة الشعر النبطي بوصفه أحد أكثر أشكال التراث غير المادي ارتباطًا بالذاكرة الشفهية والسياق الثقافي المحلي. وأوضحت أن القصيدة النبطية لا تُختزل في معناها اللغوي، بل تتشكل من منظومة مركبة تشمل الإيقاع، والأداء، والصورة الشعرية، والدلالات الثقافية، والبيئة الاجتماعية التي أنتجتها، وهو ما يفرض على المترجم التعامل معها بوصفها تجربة ثقافية متكاملة. وتوقفت عند شعر بدر بن عبدالمحسن بوصفه نموذجًا معاصرًا يعكس تحولات القصيدة النبطية، من حيث الموازنة بين المفردة النجدية القديمة والتعبير النجدي المعاصر، مع الحفاظ على الحسّ البدوي والبعد الجمالي المتجذر في الوجدان الجمعي. وسلطت الدكتورة الغدير الضوء على التحديات التي تواجه ترجمة هذا النوع من الشعر، ولا سيما المتصل منها بنقل المفردات ذات الدلالات الثقافية العميقة، والانتقال من الأداء الشفهي إلى النص المترجم من دون فقدان الرُّوح الشعرية أو الإيحاءات الرمزية. وأكدت أن الترجمة تمثل في هذا السياق أداة فاعلة لاستدامة التراث غير المادي، بما تتيحه من إعادة تقديم القصيدة الشفهية في أفق ثقافي أوسع، مع الحفاظ على خصوصيتها الجمالية وهويتها المحلية. وتلا ذلك محور «صون وترجمة السرديات الشفهية: الخبرة الميدانية، والمنصات الرقمية، والتحديات»، الذي تناولت فيه الأستاذة ابتسام الوهيبي، من هيئة التراث، تجربة الهيئة في التعامل مع التراث الثقافي غير المادي بوصفه تراثًا حيًّا متجددًا، لا نصوصًا جامدة قابلة للحفظ الأرشيفي فقط. وركّزت على التقاليد وأشكال التعبير الشفهي بوصفها أحد أهم مجالات التراث غير المادي؛ لما تحمله من معارف وقيم وهوية تنتقل عبر الأجيال عبر الممارسة والتداول الاجتماعي. وتطرقت الوهيبي إلى خبرات ميدانية ودراسات حالة؛ من أبرزها مشاريع توثيق الشعر النبطي والسجل الوطني لعناصر التراث الثقافي غير المادي، موضحة أن العمل اعتمد على إشراك المجتمعات المحلية وحَمَلة العنصر في جميع مراحل التوثيق، مع الالتزام بالمعايير الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003. كما تناولت التحديات المرتبطة بترجمة السرديات الشفهية إلى لغات أخرى، مؤكدة أن الترجمة في هذا السياق تمثل فعل وساطة ثقافية توازن بين نقل المعنى، والحفاظ على الخصوصية الثقافية، ومتطلبات الوصول إلى الجمهور الدولي عبر المنصات الرقمية. وفي محور «ترجمة الشعر الشفهي في الجزيرة العربية»، تناولت الدكتورة نورة الخراشي، من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، إشكاليات ترجمة الشعر الشفهي بوصفه نصًّا ثقافيًّا مركبًا، لا يقتصر على كونه مادة فُلكلورية أو تعبيرًا شفهيًّا عابرًا، بل منظومة شعرية تحكمها أعراف فنية وبنى إيقاعية وسياقات أدائية دقيقة. وأوضحت أن الشعر الشفهي في الجزيرة العربية لا يمكن مقاربته من خلال ثنائية «الشفهي والمكتوب»، بل ضمن تعددية من أشكال الشفاهية والتدوين التي تداخلت تاريخيًّا، وأسهمت في تشكيل الذاكرة الشعرية والهوية الثقافية للمنطقة. واختُتمت الفعالية بمحاضرة بعنوان: «المرويات الشفاهية وصناعة الابتكار الثقافي»، قَدّمتها الدكتورة ضياء عبدالله الكعبي، عميدة كلية الآداب بجامعة البحرين؛ إذ طرحت مقاربة بحثيةً ترى في السرديات الشعبية موردًا معرفيًّا حيًّا قابلًا للتجدد، لا مجرد مادة تراثية محفوظة. وربطت الكعبي بين حفظ المرويات الشفاهية وتوظيفها ضمن مسارات الابتكار الثقافي في الجامعات الخليجية، مؤكدة أن المؤسسات الأكاديمية تمتلك دورًا محوريًّا في إعادة إدماج هذا التراث ضمن منظومات التعليم، والبحث، والصناعات الثقافية، على نحو يسهم في استدامته، وتحويله إلى قوة فاعلة في الوعي الثقافي المعاصر. وانطلقت الكعبي في عرضها من مشروع «الحكايات الشعبية البحرينية: ألف حكاية وحكاية» بوصفه نموذجًا تطبيقيًّا متكاملًا، يقوم على الجمع الميداني، والتوثيق العلمي، ثم التحول إلى الرقمنة والتداول الثقافي، وقدّمت فيه تصورًا لإستراتيجية ثقافية تستثمر المرويات الشفاهية بوصفها موردًا حيًّا للابتكار. واستندت هذه المقاربة إلى تجربة ميدانية امتدت عشر سنوات في تسجيل وجمع الحكايات الشعبية البحرينية، وهو ما أنتج عملًا موسوعيًّا في خمسة مجلدات بإجمالي يقارب 2500 صفحة، شارك في إنجازه طلبة وباحثون ضمن إطار أكاديمي منظم. وأوضحت أن هذا النموذج يفتح آفاقًا جديدة أمام الجامعات الخليجية؛ لتحويل التراث غير المادي إلى قيمة معرفية وثقافية مضافة ضمن اقتصاد المعرفة، مع الحفاظ على البعد الإنساني والكوني للسرديات الشعبية بوصفها خطابًا عابرًا للحدود، وقابلًا للتفاعل مع التحولات الرقمية من دون فقدان جذوره الثقافية. ويأتي تنظيم هذه الدورة التدريبية والمحاضرات في إطار التزام كرسيّ اليونسكو لترجمة الثقافات بموضوعه لعام 2025، «ترجمة الثقافات والتراث الثقافي غير المادي»، وسعيه إلى توفير منصة معرفية تجمع بين التنظير والتطبيق، وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير في الترجمة بوصفها أداةً لصون الذاكرة الثقافية، وتعزيز الحوار بين الثقافات.